دار سيباستيان تحيي ذاكرة تونس وتكرم الفنان نجا المهداوي

زارها الرسام السويسري بول كلي، والرسام الروسي، كاندينسكي، واتخذها ثعلب الصحراء، رومل، مقرا له خلال الحرب العالمية، وفيها كتب رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، مذكراته. إنها الدار التي بناها بحب، جورج سيباستيان، وقال عنها المهندس المعماري الأميركي، فرانك لويد رايت، “أجمل منزل رأيته في حياتي”. الدار التي استضافت المسرحي البريطاني الشهير، بيتر بروك، والكاتب الفرنسي، أندريه جيد، استضافت مؤخرا ندوة تكريم للفنان التونسي نجا المهداوي.
عندما يكون هدف زيارة دار سيباستيان بالحمامات متابعة ندوة تكرم فنانا بقامة نجا المهداوي، لا بد أن تتذكر رحلة قام بها، قبل هذا التاريخ بمئة وستة أعوام إلى نفس المدينة، فنان ترك بصمته على الفن الحديث مخلدا، برسومه المائية وبالكلام، مدينة الحمامات التونسية.
شعور جميل أن يسير المرء على خطى الفنان، بول كلي، ليصل مدينة الحمامات، على بعد 65 كيلومترا من العاصمة تونس، بأسوارها القديمة المحاذية لساحل البحر المتوسط؛ ويقال إن اسمها مستمد من الحمامات الرومانية التي اشتهرت بها.
فنانون في تونس
في مدينة الحمامات اكتشف بول كلي برفقة صديقه الفنان، أوغست ماكه، الضوء التونسي، الذي شكل لحظة ميلاده الفني الأولى إذ قال “أسرني اللون. لا أحتاج إلى البحث عنه. إنّه لي إلى الأبد، أعرف ذلك. المعنى السعيد لهذه اللحظة هو: أنا واللون واحد. أنا رسام”. ولعل لوحتيْ “نظرة إلى ميناء الحمامات” و”جامع الحمامات” تلخصان أثر الرحلة التونسية التي كانت وراء توجهه إلى التجريد.
وكان الفنان الروسي، فاسيلي كاندينسكي، قد سبق بول كلي، إلى تونس، ومر هو الآخر بالحمامات والقيروان. ولم يكن مرورهما مماثلا لمرور فنانين أوروبيين مستشرقين، طافوا فيها بخيالهم الرومانسي، ليرسموا لوحات هي أقرب لقصص ألف ليلة وليلة، ولم تكن الرموز الفنية، العربية – الإسلامية، سوى توشيحات يزينون بها أعمالهم.
على العكس من بول كلي، لم يترك كاندينسكي أعمالا فنية عديدة عن زيارته التونسية، سوى مجموعتين حملت عنوان “عرب-1”، و“عرب-2”، وهي موجودة حاليا في متحف يرفان في أرمينيا. رغم ذلك طبعت الزيارة إنتاجه الفني، ويتضح ذلك في توظيفه الوحدات المعمارية الهندسية، التي أصبحت جزءا رئيسا في أعماله.

مثله مثل باقي الفنانين في النصف الأول من القرن العشرين، الذين انطلقوا في بحثهم عن فنون بديلة.
تذكرت تلك التفاصيل، التي سبق أن قرأت عنها، وأنا في طريقي إلى “دار سيباستيان” حيث تقام الندوة على مدار يومين، وتتضمن معرضا لأعمال مختارة للفنان نجا المهداوي، تتخللها محاضرات حول مسيرة الفنان، شاركت فيها مجموعة من المحاضرين بينهم: الفنان، والأكاديمي، والسياسي، والكاتب.
قبل أن نتحدث عن الندوة دعونا، نتحدث عن الدار التي احتضنت الندوة، والتي يشار إليها بوصفها “درسا في المعمار وملتقى للثقافات”.
شيدت دار سيباستيان على أرض وحديقة تمسح 9 هكتارات، ولها تاريخ يروى، وحكاية.
يدعى صاحب البيت جورج سيباستيان، وهو أميركي من أصل روماني، تشير الوثائق إلى أنه ابن غير شرعي لملك رومانيا، شب في القصر إلى أن بلغ سن الرشد، فطلب منه مغادرة البلد مع ثروة كبيرة، حتى لا يطالب بالحكم.
عرف عن سيباستيان حبه للتجول والسفر، وأقام من خلال ذلك شبكة واسعة من العلاقات مع أدباء، ومبدعين، وأثرياء، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. جاء مدينة الحمامات التونسية سائحا، وكانت آنذاك بلدة هادئة تعبق برائحة أشجار الليمون، وتغمر أشعة الشمس شاطئها الممتد على طول البلدة وأطرافها.
ومثل بول كلي، أحب جورج سيباستيان المدينة، فسعى إلى امتلاك “قطعة من الجنة”؛ اشترى قطعة أرض، وشرع في تشييد البيت، الذي كان في البداية مجموعة من الغرف الصغيرة، استوحى تصميمها من المعمار المحلّي؛ سقف مقوّس وبياض جير. ثم واصل مشروعه، ببناء مسكن رئيسي، وهو ما يسمّى بالدار الكبيرة.
اكتملت الدار لتصبح تحفة معمارية؛ بمسبح تحيط به الأقواس المدعمة بأعمدة وتيجان صخريّة منقوشة ببساطة فنية مذهلة، دفعت المهندس المعماري الشهير لوكر بوزييه ليقول عنها “هذه الدار شعاع للجمال”.
التغير الكبير في تاريخ الدار حدث عام 1965، مع قدوم الدبلوماسي اللبناني، سيسيل حوراني، إلى تونس. كان سيسيل صديقا للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، الذي قدر له مساعدته تونس في الدفاع عن قضيتها ضد الاستعمار الفرنسي، حين كان سفيرا للبنان لدى الأمم المتحدة.
تعرف سيسيل حوراني، الذي عرف بثقافته العالية وحبه للفنون، على سيباستيان، وكان حينها مستشارا معماريا لبلدية الحمامات، واستطاع أن يقنعه بإهداء الدار إلى الدولة التونسية، فوافق على ذلك، لتتحول الدار في ما بعد إلى مركز ثقافي وبيت ضيافة، يقضي فيه المبدعون أوقاتهم ينتجون الأعمال الفينة.
وكان سيسيل أول من أسس لمهرجان ثقافي، يقام دوريا في الدار، تحت اسم “الموسم الثقافي”، وأقنع منظمة اليونسكو ومؤسسة خاصة في البرتغال، ببناء مسرح هواء طلق، مستلهما تصاميم المسارح الشهيرة الثلاثة: الشكسبيري، واليوناني، والروماني، وصمم الركح المخرج المسرحي والسينمائي روني آليو، ونفذه المهندس المعماري الفرنسي شمتوف، الذي شيد مبنى وزارة المالية الفرنسية، والعديد من الأبنية الشهيرة الأخرى.
نجا المهداوي

في قاعة كبيرة مطلة على حوض السباحة علقت أعمال الفنان نجا المهداوي، حيث احتشد جمع غفير من الحضور، قال عنهم منظم الندوة، محمد المي، إنه جمع محظوظ لأنه عاش في زمن نجا المهداوي.
“نحن محظوظون جميعا لأننا نعيش عصر فنان متميز”، قدم لتونس الكثير وقدمت له تونس الكثير أيضا.
مطارات عالمية كبرى تزين صالاتها أعمال للفنان المهداوي، توشح أجنحة طائراتها أحرف من إبداعه، وتفتخر متاحف دولية باقتناء رسومه، وتزين تصاميمه المئات من الكتب، وتستعير دور الأزياء وبيوت الموضة خطوطه.
قائمة طويلة، نكتفي بآخر المعجبين المنضمين إليها، مارك زوكيربرغ، الذي اختار جدارية من إبداع الفنان تزين المقر الرئيسي لشركة “فيسبوك” بمدينة، سان فرانسيسكو، بالولايات المتحدة.
الفنان الأكاديمي الناصر بالشيخ، الذي عاصر مسيرة نجا المهداوي، كان خيارا موفقا جدا ليقدم عرضا تاريخيا حول الفنان وعلاقته بالمدرسة التونسية، ودوره في تطوير الاتجاهات الفنية التشكيلية في تونس.
الجانب الصوفي، أو بالأحرى المغامرة الصوفية، كانت محور محاضرة قدمها محمود طرشونة، جاءت بعنوان لافت هو “عندما يتحول السرد إلى فن تشكيلي بريشة نجا المهداوي في رواية مراتب العشق لرجاء عالم”. ويبدو أن المحاضر أدرك أن العكس هو الصحيح، وأن رسوم المهداوي هي التي تحولت في الغالب إلى سرد.
علاقة الفنان بابن عربي، تحدث عنها المحاضر حمادي بن جاء بالله. ليختتم اليوم بفيلم وثائقي حول مسيرة الفنان، تلته حلقة نقاش.
بينما وجد بيكاسو ضالته في الأقنعة، التي قادته إلى التكعيبية، وجد كاندينسكي ضالته في البناء التونسي
هل تمكن الإحاطة بتجربة المهداوي بمحاضرة تلقى أو اثنتين، هذا صعب للغاية، فتجربة الفنان نجا كما أتقن وصفها الباحث اللبناني شربل داغر “خارطة واسعة، مادية وخيالية، حدودها واقعة بين: الخط والرسم، بين الرسم والتصوير، بين التصوير التشبيهي والتصوير التجريدي، بين الخط العربي والخط الياباني أو الصيني، بين السطر والشكل، بين الشكل وبناء العمل الفني، وغيرها مما يشير إلى معالم اتصال وانفصال، وتشابه وتباين”.
لم يترك المهداوي، خلال مسيرته على مدى ستين عاما، خامة إلا وظفها في تنفيذ أعماله، ولم يستثن من ذلك الجسد الإنساني، وصولا إلى أجنحة الطائرات، وواجهات المباني، مرورا بأغلفة الكتب، وورق البردي، والرق، والزجاج، والخزف، والنحاس، والحجر؛ لا خامة تحضر إلى الذهن، إلا وترك المهداوي بصمته الفنية عليها.
ولد المهداوي في تونس عام 1937، وأقام معرضه الشخصي الأول عام 1965، في مدينة باليرمو الإيطالية، حيث كان طالبا في “كلية الفنون سانت أندريا” في روما، وقبل التحاقه بـ“مدرسة اللوفر في باريس، شارك في أكثر من معرض جماعي، كان أولها عام 1961 في مركز ابن خلدون الثقافي” بالعاصمة تونس.
قبل أن تنفض الندوة، نستمع للفنان نجا المهداوي يقول “لا زلت منبهرا بهذا التكريم، وبما قيل فيه، ها أنا بعد سنين طويلة من العمل، ألاقي تقديرا من أهل الإبداع الأدبي، والفني، والفكري، يكفيني مئتا كتاب قرأتها، وأهديت أصحابها غلافا، من “باب الجديد” في تونس العاصمة، إلى “أوساكا” في طوكيو اليابان.
نغادر “قطعة الجنة” ونحن نفكر في نجا المهداوي، الذي أبهرنا بتواضعه، بعد أن أبهر بفنه العالم.