دار الصباح تراهن على المبادرة والتجديد لتحدي الأزمات

صنعت دار الصباح، وهي الأقدم والأعرق في المؤسسات الإعلامية التونسية، الحدث بمشاركتها في حفل تسليم الجوائز للإنتاج الرمضاني من مسلسلات وسيتكومات، وتنظيمها ندوة حول الإعلام التونسي والتحول الرقمي في معرض تونس للكتاب.
مبادرات لإظهار أن الجريدة لا تزال حية رغم الأزمات، وأن لديها مقومات للبقاء بالاعتماد على الذات وتحدي الصعاب.
القصة وما فيها أن المؤسسة التي كانت مهددة بالذوبان والتيه نهضت فجأة بأفكار أبنائها واستعادت بريقها القديم من خلال "الديجيتال"، أي إنتاج برامج حوارية سياسية وثقافية ورياضية وتحقيقات للحفاظ على جمهورها الذي انتقل بدوره من أيام الصحف الورقية إلى الافتراضي، فاختارت الصحيفة أن تذهب معه إلى الافتراضي بدل إلقاء المسؤولية على موت الورقي، والإرباك الذي تصنعه مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن خلقت إعلاما لم يكن “على البال ولا على الخاطر”.
بدل الاستسلام للأمر الواقع وانتظار الحلول التي تأتي من السلطة بالتفويت أو الدمج، عول أبناء الصباح على أنفسهم، على إمكانيات علمية وتحريرية وخبرات وعلاقات وحماس لإنقاذ المؤسسة.
◙ أبناء الصباح بدل الاستسلام للأمر الواقع وانتظار الحلول التي تأتي من السلطة عولوا على أنفسهم وعلى إمكانيات علمية وتحريرية وخبرات لإنقاذ المؤسسة
"الديجيتال" رسالة ذكية مفادها أن المؤسسة بتاريخها وخبراتها لا ينقصها شيء لأن تنافس. الفارق فقط في المال والإعلانات، وإلا لكان للصباح تلفزيون محترم وجذاب أفضل من تلفزيونات تفتح دكاكين الطبخ وأدوية الأعشاب من الصباح إلى المساء.
جريدة الصباح لديها مقدمون ومقدمات شباب بظهور مريح وألسنة طليقة وثقافة محترمة في مؤسسة تأسست على صناعة المحتوى منذ أيامها الأولى مرورا برموزها الكبيرة وصولا إلى جيلها الحالي، الذي يؤكد أن لتونس صحافيين بـ"الفم والملا"، وأنهم ليسوا مجرد أرقام. ويحق في توصيفهم المثل المعروف "ذاك الغصن من تلك الشجرة".
الحكومة تبحث عن حل لمستقبل الصباح من خلال الدمج مع مؤسسة "لابريس". الهدف هو حل مشكلة الرواتب وتكفل الدولة بالإنقاذ بعد أن تُركت المؤسسة في سنوات ماضية للتهميش لدفع صحافييها وموظفيها إلى القبول بفكرة التفويت فيها لمستثمر خاص.
تدخل الدولة المباشر قد يفيد مؤسسة "لابريس" لأنها مؤسسة حكومية بالنهاية. لكن فكرة الدمج ستعيق الصباح، وقد تضعف ميزتها كمؤسسة تقوم على المبادرة والحماس وإثبات الذات وتحولها إلى إعلام حكومي يشتغل بالحد الأدنى ويتجنب أي سبيل يمكن أن تحرج الدولة الممولة والمنقذة.
وإذا دخلت مؤسسة إعلامية باب الترضية السياسية ضاعت وفقدت البوصلة مهما كان حماس العناصر التي تعمل داخلها، وهو وضع يتنافى مع طبيعة "الصباح".
صحيح أن الجريدة الأقدم في تونس تحتاج إلى تمويل ورواتب. لكن يمكن أن تبحث الحكومة عن صيغة تمويل تحافظ على طبيعة المؤسسة من غير الدمج الذي يوحي بالاستحواذ والوضع في الجيب.
الصباح حافظت عبر تاريخها على هوية مختلفة قوامها الاشتغال على الخبر والسبق والتحليل الهادئ الذي لا يتخلله صراخ ولا حملات ولا أجندات، وتخرّج منها صحافيون بارزون في أقسامها المختلفة، بعضهم عمل مع مؤسسات خارجية، والبقية توزعوا في مؤسسات تونسية مختلفة.
لا شك أن أغلب قصاصي تونس وروائييها وشعرائها من "جيل التسعينات" تم اكتشافهم على صفحات الصباح. من يمكن أن ينسى محمد بن رجب وأحمد عامر رحمهما الله، من ينسى صدى الثلاثاء والخميس والصفحات الثقافية للصحيفة الأم، وهو ما قدمت بعض التفاصيل عنه الندوة التي جرت الخميس في معرض الكتاب تحت عنوان "الملاحق الثقافية لجريدة الصباح ومساهمتها في الحياة الثقافية".
◙ الصباح حافظت عبر تاريخها على هوية مختلفة قوامها الاشتغال على الخبر والسبق والتحليل الهادئ الذي لا يتخلله صراخ ولا حملات ولا أجندات
طبعا من دون أن ننسى أفضال صحف أخرى ووجوه إعلامية كان لها دور في تصعيد أجيال مختلفة من المشتغلين بالثقافة مثل ملاحق الشروق والصريح والحرية والورقات الثقافية بالصحافة.
أغلب التونسيين كانوا يثقون في الصباح مصدرا للمعلومة، وخاصة المعلومة التي تأتي من مصدر محايد وذي مصداقية.
أتذكر في الثمانينات أن بعض من كنت أعرفهم من أساتذة ومعلمين وموظفين حكوميين كانوا يقتنون اشتراكات سنوية ليحصلوا على الصباح مع كل صباح. اشتراكات فردية وليست موجهة من جهة داخل الدولة أو من الحزب الحاكم وقتها.
لم تكن معارضة، ولكنها لم تكن أبدا في صف السلطة من بورقيبة إلى بن علي إلى ما بعد الثورة، وحتى حين اشتراها صهر بن علي فقد كانت الأقل مديحا للسلطة، ربما لأن المالك الجديد وقتها لم يكن في حاجة إلى إظهار الولاء والتمسح على الأعتاب كما كان يفعل البعض ممن صاروا ثوارا بعد 2011.
وبعد 2011، لم يجعل مناخ الحرية الكبير الصحيفة تغير من خطها في النأي عن السلطة، وإن كان بمواقف متفاوتة، حيث غلبت الحماسة في السنوات الأولى للثورة خاصة مع محاولات وضع اليد على المؤسسة، ثم عاد الاعتدال والحياد.