دارا ئستري يرحل حاملا معه أحلامه الفنية دون أن يلامس أحدها

لم يمهل الموت الفنان التشكيلي الكردي دارا ئستري ولم يمنحه فرصة ليحقق أحلامه الصغيرة والكثيرة، ومن بينها أن يعود إلى وطنه سوريا بعد أن هجره هربا من النظام السابق، وهو وإن رحل حاملا أحلامه معه ترك أعمالا فنية شاهدة على إبداعه في فن الكاريكاتير وتميزه وعلى أنه كان صوتا ناصرا للحقيقة في زمن الخوف والخنوع.
من يحمل معنا كل هذا الحزن، أي أرض قادرة على أن تحمل أحزاننا بمخزونها الكبير جدا حيث المواجع التي لا تنتهي حتى أغرقتنا تماما، أحزاننا التي تتدحرج معنا في هذه الحياة اللعينة وتكبر معنا؟ أي أرض قادرة على أن تدفن في قلبها أحلامنا التي لا تتجاوز حلم عصفور بامتلاك حرية الطيران وحرية العودة إلى عشه آمنا، لا ينتظره قناص ما في زاوية معتمة؟ أحلامنا التي تستنطق بنا وبقدرنا أن يكون الحزن مدينتنا السائدة ننخرط فيها وتنخرط فينا إلى حدود القطيعة غير رحيمة بنا؟
أحلامنا تتسكع على أرصفة مدينتنا دون أن يلتفت إليها أحد، ورغم ذلك بها نتنفس، نتعلق بها بثمراتها المتناثرة على خارطة تأنس بنا، دون أن تجذبنا إليها وإن كانت من طرفنا نحن الغارقين حبا فيها، حتى ولاداتنا تكون موجعة جدا وقد تكون بعملية قيصرية، لا نلد إلا بمبضع جراح والوليد لا يأتي طبيعيا، أخفها أن يكون بعين واحدة، فأفراحنا لا تكتمل، بل تأتي حزينة وعلى شكل فاجعة على أقل تقدير.
هذه الصورة الموحية باللاحدود تذكرني بالمجموعة الأولى لشاعرنا الجميل الصديق لقمان محمود والتي عنونها “أفراح حزينة”، وأصدرها عام 1990 وكأنه كان يتنبأ بما مضينا إليه، هل كان يدرك حينها أن قدرنا هو الحزن وحده؟
أسوق هذا الكلام وأنا أقرأ نبأ رحيل الفنان الكاريكاتوري محمد شيخ حمو أو دارا ئستري الاسم الذي كان يحب أن يعرفه في الوسط الثقافي والاجتماعي، وهو باللغة الكردية ويعني “شجرة الشوك” أو العوسج بالمختصر، كان ذلك في العشرين من يناير الجاري، في أحد مستشفيات إسطنبول بتركيا، على إثر أزمة قلبية، عن عمر ناهز سبعا وخمسين عاما.
كان حلمه لا أن يجمل الحياة والإنسان فحسب بل أيضا أن يعود إلى بلاده، إلى عفرين وكوباني وحلب ليسرد لكل مكان منها شوقه وغربته وحلمه، لكن القدر كان أسرع من الضوء ليخطفه وحلمه ويعود إلى أمكنته التي كانت تشكل دمه بكرياته الحمراء والبيضاء معا في تابوت.
رحل دارا ئستري باكرا حاملا معه أحلامه الصغيرة منها والكبيرة دون أن يلامس أحدها، فكل تلك الأحلام بدءا من إقامة معرض فردي لأعماله الكثيرة التي تناثرت هنا وهناك في جعبة الأصدقاء، أو على صفحات التواصل الكثيرة، إلى رؤية برنامج تلفزيوني كان قد كتب نصوصه بلغته الكردية أولا، وحين لم يجد من يتبناها ترجمها إلى العربية علها تلاقي طريقها، لكنها أيضا بقيت نائمة في الأدراج الحزينة، وصولا إلى حلمه في إسقاط النظام وتحرير البلاد من براثنه والعودة الآمنة إليها وعلى نحو أخص إلى مدينة كوباني التي ولد وعاش فيها والده، والتي هاجر جده من ريفها، من قرية طاشلوك إلى قرى منطقة الباب، ثم إلى قرية البرج ومنها إلى حلب، حيث قضى طفولته فيها، تحديدا في حي الصاغور الشعبي، وقد اعتبرها بمثابة أمه، وحلمه بالعودة إلى عفرين التي تعتبر بمثابة حبيبته. نعم كل تلك الأحلام حملها الراحل معه إلى قلب الأرض، القلب الأكثر دفئا والأكثر حنانا والأكثر أمانا، والأكثر طيبة من قلوب البشر كلها.
لم يكن على الحياد، ولم يكن مكتوف اليدين، بل كان فاعلا في الحراك الثوري الشبابي ضد النظام السوري السابق وأعماله منذ الخطوات الأولى له، كان من أوائل الذين خرجوا في المظاهرات السلمية في كل من مدينتي حلب وعفرين مناديا من أجل الحرية والكرامة، تحدث عن ذلك لأحد أصدقائه الذي قام بنشر مقتطفات منها في أحد المواقع الإلكترونية ولنقرأ ما يقول “عندما بدأت التظاهرات في تونس ومصر كنت متأثرا بها بشكل جيد، وقتها بدأت معي مرحلة جديدة من خلال إنتاجي، وعندما بدأت التظاهرات السلمية في سوريا انخرطت بشكل مباشر فيها وخاصة عملت الكثير من اللافتات والشعارات لأجل تظاهراتنا. ورغم انشغالي بالعمل الإجرائي إلا أن رسوماتي وأفكاري أترجمها مباشرة على ورقة بيضاء أو على قطعة كرتون وأضعها جانبا إلى حين اختمار الفكرة المراد منها لأعيد صياغتها فيما بعد بشكل جيد. ومنذ خروجي من سوريا عام 2014 إلى تركيا هربا من الملاحقات الأمنية وأنا لم أتوقف عن الرسم، مع العلم لم أستطع أن أقيم معرضا فنيا فرديا أو جماعيا بسبب الظروف المعيشية بعد استقراري في تركيا وبسبب التأثير السلبي لحالتي النفسية بسبب انحراف الثورة إلى العسكرة وفقدان أهدافها.”
ئستري قال كلمته ومضى، قالها بـ”الفم المليان” كما يقال، إن كان على الأرض في مشاركاته في تلك المظاهرات السلمية، أو في ريشته الساخرة التي كانت جزءا من روحه، ريشته التي كانت تشكل سلاحه الأقوى في التعبير عما يختلج في صدره من مواقف تجري على الأرض.
وفي هذا الصدد لم يتأخر بالتوجه إلى إدانة عسكرة الثورة السورية، وإلى تعرية الفصائل والأحزاب والشخصيات التي كانت تلعب وتتاجر بمصير الشعب السوري وبمصير ثورته، فكانت ريشته أقوى من طلقاتهم ومن مصالحهم ومن سرقاتهم، لم يتهاون معهم ولم يضعف أمام دولاراتهم، فكانت ريشته حرة مثله تقول عنه وهي لسان حاله في ميدان الحياة.
وئستري من الفنانين السوريين الأكراد القلائل الذين خاضوا تجربة في فن الكاريكاتور، نذكر منهم ياسر أحمد ومحمد سيدا وسعد حاجو وديكو عنايت ويحي سلو. هذا الفن من الفنون السهلة الممتنعة كما يقال، يحتاج إلى روح مرحة وساخرة ومتمردة، روح ناقدة في الآن نفسه، وكذلك يحتاج إلى التشبع الفكري الكبير وعمقه، ففن الكاريكاتور لا يعني التضخيم والتحريف في بعض الملامح والمعالم في الشخصية المرسومة، ولا الاستهزاء بها إن كانت هذه الشخصية سياسية أو فنية أو اجتماعية، فحسب، بل أيضا أن يجمع بين الواقع والخيال إلى حد كبير، وبين السخرية والعمق الفكري والثقافي لكل ما يجري حوله وفي دائرته من أحداث سياسية مقرفة وإنسانية مؤلمة وموجعة، ملتقطا أكثر لحظاتها دقة، غائرا بذلك في عمق المشاعر الإنسانية.
ئستري كان يملك كل ذلك مع امتلاكه لخفة الدم وسرعة البداهة، واللطف الزائد، وروح النقد والسخرية والاستهزاء، ولهذا جاءت أعماله مرايا لكل ما يجري في الواقع المعيش، عبر رموز ليست غامضة تماما، وتصل إلى متلقيه على نحو سريع وبسيط، وهو الذي أبدع وابتكر شخصية المواطن الكردي “العم أوس” الكاريكاتورية.
فناننا الراحل من مواليد حي الصاخور الشعبي بحلب عام 1968، درس الفن دراسة خاصة، ونشرت رسوماته في العديد من الصحف والمجلات العربية والكردية، وفيما بعد على الوسائل الاجتماعية المختلفة. شارك في الكثير من المعارض الجماعية لفن الكاريكاتير، منها المعرض الذي تم تقديمه بعنوان “تعا ولا تجي” في كل من مدينتي حلب وطبقة عام 1999.
ساهم في تأسيس رابطة جرا الثقافية مع الراحل عبدالرحمن عمر بافي صلاح (1952 – 2016) الذي قال عنه الكاتب الكردي جليلي جليل حين زاره مرة بحلب عام 2012 “أنت كنز كبير، وكل الملاحم التي تغنيها أصيلة وبعيدة عن التشويه”، وأحياها لاحقا في إسطنبول مع ثلة من أصدقائه وتحديدا في عام 2017، مارس العزف والموسيقى، وأسس فرقة موسيقية جوالة في إسطنبول، وكذلك كتب أكثر من سيناريو فيلم سينمائي أنجز أحدها في إسطنبول بعنوان “كوندي حميكه” مع مجموعة من أصدقائه بإمكانيات متواضعة.
لم يستكن ئستري ولم تهزه الظروف الصعبة التي عاشها، فريشته اللاذعة، الساخرة، الحادة، وإيمانه الكبير بما يملكه من أحلام وإمكانيات وطموحات كان يسبقه في اختصار كل ما كان يود قوله.
وعن رحيله، كتب الكثير من المثقفين السوريين، من بينهم الشاعر والفنان التشكيلي علي مراد الذي قال “دارا كيفَ سترحلُ ونارُنا ما زالتْ مشتعلة؟ انهضْ لنركلَ حرسَ الحدودِ ونزحفَ إلى حلب، انهضْ لنحوّلَ الألمَ إلى لوحةٍ والواقعَ إلى صرخةٍ نبيلة. أبا علاء انهضْ، أقسمُ أنْ لنْ أقولَ بعدَ الآنْ أنّ الكاريكاتير هو الابنُ غير الشّرعي للفنّ التّشكيلي. فقط انهضْ واقتربْ مسافةَ وطنْ.. انهضْ يا صديقَ القلمِ الحرّ، ألم تقلْ أنّكَ ترى ما لا نراهُ، دارا هل حقّا سئمتَ البقاءْ؟ وهلْ حقّاً صمتَتْ خطوطُكَ التي كانتْ تصرخُ في وجهِ البياضْ؟ حيّ أنتَ فينا يا دارا، كلُّ زاويةٍ رسمْتَ فيها تهتفُ لكَ الآن.”
وكتب عنه الكاتب والروائي جان بابير “دارا ئستري يغادر الحياة بهدوء. رحلت باكرا أيها العزيز، وكانت لك أحلام كثيرة لم تكتمل. غادرتنا، لكن أعمالك الكاريكاتيرية ستظل تتحدث عن قضايانا الاجتماعية والسياسية بجرأة وسخرية. كنت الصوت المميز الذي عبر عن هموم وتطلعات المجتمع الكردي والسوري. لم تقتصر إبداعاتك على فن الكاريكاتير فحسب، بل امتدت أيضا إلى مجال الكتابة، حيث أثريت الساحة الثقافية بأعمالك. كانت مسيرتك الفنية مثالا للالتزام بقضايا المجتمع وهمومه، وها نحن اليوم نشعر بفراغ كبير برحيلك، فقد فقدنا فناناً حقيقيا، وصديقا لا يعوض.”