خيط رفيع يفصل بين الإبداع والفصام

بدْءًا بفان غوخ وروبن ويليامز مرورا بتشارلي شابلن ولورد بايرون وجون ناش، عالم الرياضيات الأميركي الذي فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام 1994، والذي عانى من الفصام، وغيرهم العديد من المبدعين، فإن هنالك دوما فكرة ما تدور حول ارتباط الإبداع أو العبقرية بالجنون، وهذه حقيقة ما زال العلماء من مختلف الاختصاصات يتداولونها في أبحاثهم.
الأربعاء 2016/05/11
رابط خفي بين الابداع والجنون

ناغمت دراسات عدة بين لمسة من فصام وذهن الأشخاص المبدعين، حيث تنشط منطقة معينة في الدماغ بصورة مفرطة وأكبر لدى الأشخاص المصابين بفصام الشخصية (الشيزوفرينيا)، وهذه هي المنطقة ذاتها التي تنشط لدى إنجاز الفعل الإبداعي في العادة. أما أحدث الدراسات في مجال علوم الأعصاب فقد أشارت إلى وجود أساس وراثي- جيني واحد للإبداع والجنون في الوقت ذاته.

ويؤكد متخصصون على أن الجينات قد لا تلعب دورا حاسما في تحديد معدل الذكاء الفردي أو زيادة فرصة الإصابة بأمراض مثل السكري والسرطان وأمراض القلب، إلا أنها قد توفر البيئة المناسبة وتعمل مثل عنصر يجذب الإنسان إلى الإصابة بحالات ذهنية معينة ومنها مرض الفصام هذا، ولكنها قد تكون بدرجات متفاوتة من شخص إلى آخر.

ويرى غارث سوديم، وهو كاتب أميركي متخصص في مجال العلوم وله مساهمات عدة في دوريات متخصصة منها صحيفة نيويورك تايمز ومجلة الكونغرس الفصلية، أن الفصام أو ما يسمى “اضطراب الوهام” هو اضطراب ذهاني يتسم بسلوك اجتماعي غير طبيعي من أعراضه الشائعة اضطراب الفكر والهلوسة السمعية، إضافة إلى انخفاض المشاركة الاجتماعية وغياب الإرادة.

وعادة ما تبدأ أعراض الفصام بالظهور في العشرينات من العمر، وتتفاوت هذه الأعراض بين المرضى، فهناك الوهام وهي تصورات منافية للمنطق والواقع كأن يتوهم الشخص تعرضه للخطر من دون وجود سبب منطقي، فضلاً عن الهلوسات وهي إدراك حسي من دون وجود أي منبه خارجي كسماع أصوات غير حقيقية أو رؤية أجسام غير موجودة، ويصاحب ذلك اضطراب في التفكير ويستدل عليه من خلال الكلام غير المترابط أو غير المفهوم، مع غياب القدرة على التواصل السليم مع الآخرين. ومن ضمن أعراضه السلبية عدم إظهار المشاعر أو تغيير في تعابير الوجه وتجنب التواصل البصري.

ويؤكد سوديم على أن المصابين بالفصام يخيل إليهم أن العالم المحيط بهم مركب من خليط كبير من الأفكار والمشاهد، ويتسم سلوكهم وفقا لذلك بالغرابة والتغيير المفاجئ في السلوك والشخصية بدون وجود أسباب تستدعي ذلك، وفي النهاية قد يفقد المريض أي صلة تربطه بالواقع.

ويؤكد سوديم على أن الجينات ليست هي المسؤول المباشر عن خلق حالة الفصام، فقد يحدث في ظروف نمو معينة كأن يتم تعديل أو إعادة ترتيب هذه الجينات بسبب متغيرات تصاحب تغيرات خارجية وداخلية في جسم الإنسان، ولكن في هذا الخليط العجيب من التغييرات الجينية يبقى الجاني الحقيقي مجهولاً في تلك الحالات التي صاحبت الانتكاسات الذهنية التي رافقت أجيالا قديمة من المبدعين والفلاسفة والكتاّب الذين كانت تفسر حالاتهم غير السوية بالجنون. ويكمن السؤال المهم هنا في التعبير التالي: هل تزداد فرصة الأشخاص المصابين بهذا الاضطراب الجيني في أن يصبحوا مبدعين؟

الفصام هو اضطراب ذهاني يتسم بسلوك اجتماعي غير طبيعي من أعراضه الشائعة اضطراب الفكر

في الواقع، من الصعب التوصل إلى نتائج مرضية في هذا النطاق بسبب الحالات النادرة التي رصدت إصابة مبدعين وعباقرة بمرض (الشيزوفرينيا)، وفي مثل هذا النوع من الأبحاث فإن العدد الذي يرصد كعينة بحث يفترض أن يتجاوز المئات، كي تستطيع أن ترقى النتائج – في حال مطابقتها الفرضية – إلى تكوين صورة واضحة عن هذا الرابط.

لكن الدكتور كريستوفر بادكوك، وهو عالم اجتماع في جامعة لندن، يعتقد في مقاله الأخير في مجلة “علم النفس” الأميركية، بأن بعض الباحثين يشيرون إلى احتمالية أن يجمع بعض الأشخاص بين الجنون والإبداع، وبأن هناك أدلة متزايدة على ذلك حتى أن نتائج دراسة أميركية كلاسيكية كان عنوانها “ثمن العظمة” نشرت في العام 1995 وتناولت عينة لأكثر من 1000 من المواطنين الأميركيين الذين سجلوا مساهمة بارزة في مجال الفنون والعلوم والوظائف العامة والنشاط الاجتماعي خلال القرن العشرين، أشارت إلى أن هؤلاء جميعا وخلال دورة حياتهم قد عانوا من اضطراب عقلي ما سواء أكان معقدا أو بسيطا، وكانت معدلات الإصابة كالتالي: (87 بالمئة منهم شعراء، 77 بالمئة كتاب، 74 بالمئة يعملون في المسرح، 73 بالمئة فنانون، 68 بالمئة موسيقيون و60 بالمئة ملحنون).

وأشارت تفاصيل هذا البحث إلى أن أصحاب المهن التي تعتمد في أساس عملها على عوامل موضوعية مثل الدقة والتفكير العقلاني والمنطق – ومنهم المهندسون المعماريون والمصممون والصحفيون وكتاب المقالات والنقاد – هم أقل عرضة للاضطرابات العقلية في حين يعاني غيرهم ممن يمتهن مهنا تعتمد على التعبير الانفعالي والتجارب الشخصية كمصدر للإلهام مثل الشعراء والروائيين والممثلين والموسيقيين من الاضطرابات الذهانية أكثر من غيرهم، حيث خلصت النتائج إلى أن كتابة الشعر تجعل صاحبها وخلال دورة حياته، عرضة أكثر من غيره إلى الاكتئاب والذهان وتسلط الأفكار الانتحارية أيضا.

وهذا ما يفسر أيضا أن العديد من كبار الشعراء على مستوى العالم قد ظهرت عليهم بشكل أو بآخر وخلال مراحل معينة من حياتهم، بعض أعراض المرض الذهاني وأبرزها اضطراب الهوس الاكتئابي، ومن الأمثلة على ذلك في الأدب الإنكليزي: وليام بليك، لورد بايرون، إميلي ديكنسون، جون كيتس، والت وايتمان، وغيرهم كثيرون.

ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن مرض الهوس الاكتئابي خلافا للفصام والزهايمر لا يعد مرضا متعلقا بالخرف، وعلى الرغم من أنه يأتي ضمن سلسلة الأمراض الذهانية الحادة إلا أنه نوع من الذهان المؤقت الذي لا يؤدي إلى جنون مزمن إلا في ما ندر، ولا يتعدى تأثير هذا الهوس كونه ربما أحد المزايا العقلية التي تضيف للإبداع أكثر مما تأخذ منه فهو قد لا يعطل الوظائف العقلية إلى حدود يصعب معها التعامل مع الواقع اليومي، وبالتالي لا يعيق ملكة الإبداع إلا إذا استمر تأثيره وطال زمنه.

21