خيار عودة منصب رئيس الوزراء إلى ولي العهد في الكويت

توحي التجاذبات الكثيرة في المشهد السياسي الكويتي بأن الكويتيين يجدون في ما يفرقهم أكثر مما يجدونه في ما يجمعهم. تحول مجلس الأمة الكويتي إلى ساحة صراع واستجوابات للمسؤولين وهو ما اقتضى حله أكثر من مرة. ومع كل دورة انتخابات وإعادة تشكيل الحكومة، كان على الكويت أن تعود إلى نقطة بداية سياسية وتنموية غير واضحة المعالم، جعلت البلاد تتراجع في معايير التنمية والتقدم الإقليمية، وأن يسمع الكويتيون مفردات مثل العجز في الميزانية والسحب من صناديق الاستثمار السيادية لمواجهة متطلبات الإنفاق. لعل الوصول إلى هذه النقطة، أي عندما صارت التجاذبات تتجاوز الحديث عن مصير التنمية في الكويت إلى الشك في قدرة الدولة على تلبية متطلبات الإنفاق الحكومي التشغيلي من رواتب ومن إدامة للبنية التحتية البلدية والصحة والتعليم والدفاع، جعل الجميع يحسون بأن الاستمرار في هذا الوضع غير وارد ولا بد من علاج لحالة الفوضى السياسية التي تتجسد أكثر ما تتجسد في ما يجري داخل قاعة مجلس الأمة.
اتخذ أمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح قرار حل مجلس الأمة وتعليق العمل بفقرات من الدستور ضمن مهلة زمنية لا تزيد عن أربعة أعوام. أيّ عودة إلى انتخابات برلمانية في الكويت، كانت ستعيد المشهد نفسه، وتأخذ الكويت وحكومتها ونوابها وشعبها إلى الدوامة نفسها. وسواء حملت الفسحة الزمنية التي أعطاها الشيخ مشعل الأحمد لنفسه وشعبه تغييرات دستورية عميقة تساعد على إصلاح الوضع الذي يعيد إنتاج فوضى مجلس الأمة أو لم تحمل ذلك، فإن من المبكر التنبؤ بما سيحصل رغم أن الأول هو المسار الوارد والمنطقي. تعب الكويتيون من الدوران في دوامة التجاذبات التي صارت تكبر في كل دورة انتخابات وتشكيل حكومة واستجوابات وحل للبرلمان.
استكمل الشيخ مشعل الأحمد قرار حل مجلس الأمة وتعليق العمل بفقرات من الدستور بتزكية، ثم تعيين الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح وليا للعهد. وبوسع أي مراقب للشأن السياسي الكويتي أن يلاحظ أن هذا التعيين قد استُقبل بارتياح ملحوظ في الكويت. فالشيخ صباح الخالد شخصية سياسية مخضرمة في العمل الحكومي والسياسي تتمتع بالكثير من الاحترام. وعلى مدى عقود تبوأ مناصب مهمة في الإدارة الحكومية في البلاد، ومنها مناصب وزارية سيادية في الخارجية والإعلام والأمن الوطني، بعد المرور بمناصب سفير بلاده في الأمم المتحدة والسعودية. ولعلّ تولي الشيخ صباح الخالد رئاسة الحكومة لأكثر من سنتين هو الأصعب من بين ما تولّى من مناصب، إذ ترافق مع وصول أزمات العلاقة بين الحكومة الكويتية ومجلس الأمة إلى ذروتها على خلفية مرض أمير البلاد آنذاك الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح.
◄ لا شك أن قرارا من نوع إعادة العمل بعرف إسناد رئاسة الحكومة لولي العهد يحتاج إلى توافقات داخل الأسرة الحاكمة وفي الدوائر السياسية النافذة في المجتمع الكويتي
أصبح فرع الحمد الصباح من الأسرة الحاكمة في الكويت صمام الأمان للسلطة، بل وهيبة الدولة والأسرة الحاكمة، بوجود الشيخ صباح الخالد في رئاسة الحكومة، وتولي أخيه الشيخ أحمد الخالد منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع وأخيه الشيخ محمد الخالد منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية. هذا التماسك في فرع غير منافس على ولاية العهد وفّر لنائب الأمير ولاحقا أمير البلاد الشيخ مشعل الأحمد فرصة إرسال رسائل التحذير للمتلاعبين السياسيين في مجلس الأمة والأسرة الحاكمة، ثم اتخاذ قرارات حل المجلس وتعليق بنود في الدستور وأخيرا تعيين ولي العهد.
لا شك أن القرار الأخير بتعيين الشيخ صباح الخالد وليا للعهد كان خروجا عن العرف السائد بإبقاء المنصب بين فرعي الأحمد والسالم، ثم حصره في فرع الأحمد. لكن الانقسامات داخل الأسرة الحاكمة تركت ما يكفي من المساحة للمناورة والاختيار. صار مصير الكويت نفسها على المحك عندما غامر أعضاء طموحون من الأسرة باستخدام أدوات سياسية من تجمعات حزبية وقبلية، إخوانية وسلفية أو ذات ميول إيرانية، في الصراع بين الأطراف المتجاذبة التي صار مجلس الأمة ساحتها المفضلة.
الهدوء الجاري اليوم في الكويت يثير السؤال الأهم: كيف يمكن للشيخ صباح الخالد، بسمعته وخبرته، أن يساعد على إيجاد حل لمشكلة السياسة والحكم والسلطة في الكويت؟ قبل الرد، ينبغي العودة إلى سنة مفصلية في تاريخ الكويت المعاصر، هي سنة 2006.
في تلك السنة لم يتم تنصيب الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أميرا على الكويت بعد تنازل الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح عن الحكم وحسب، بل تم تثبيت فكرة الفصل بين منصبي ولاية العهد ورئاسة الوزراء، وعدم ربطها بمرض الشيخ سعد العبدالله فقط. كان الشيخ صباح الأحمد قد تولى رئاسة الوزراء عام 2003 بعد تراجع صحة ولي العهد ورئيس الوزراء الشيخ سعد العبدالله. بدا الأمر آنذاك كإجراء مؤقت، وكان من الواضح أن تولي أمير جديد للحكم ومعه ولي عهد معين، سيستعيد العرف بإسناد الحكومة إلى ولي العهد. لكن المنصب ذهب إلى الشيخ ناصر المحمد الأحمد الجابر الصباح، الذي استمر فيه مدة تزيد عن خمسة أعوام، ثم تداول على المنصب ستة رؤساء وزارات، تم تكليفهم في مراحل مختلفة من دورات حل وانتخاب مجلس الأمة. ومع كل رئيس حكومة جديد، وبعضهم استمر في المنصب مدة تقل عن سنة بسبب أزمات التكليف والاستجواب والاستقالة، تشهد الكويت حالة عدم استقرار حكومي غير مسبوقة في تاريخها ولا تنتمي إلى أعراف منطقة الخليج التي عادة ما تُسند المناصب الوزارية فيها إلى وزراء يظلون في مناصبهم سنوات طويلة تتيح لهم فرصة تنفيذ الخطط الحكومية والتنموية دون هزات كبيرة.
في أكثر من دولة خليجية يرتبط منصب ولي العهد بمنصب رئيس الوزراء. كان كذلك في السعودية، ثم أصبح الملك هو رئيس الوزراء ثم عاد المنصب إلى ولي العهد. في البحرين، المنصب أصبح مرتبطا بولي العهد بعد رحيل الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة. في دولة الإمارات، يتولى أولياء عهود الإمارات رئاسة المجالس التنفيذية في كل إمارة وهي الصيغة المحلية لمجالس الوزراء المصغرة. المجالس التنفيذية في الإمارات توجه السياسة الحكومية المحلية وفق ترتيبات تحافظ أيضا على صيغة مجلس الوزراء الاتحادي.
◄ الشيخ مشعل الأحمد استكمل قرار حل مجلس الأمة وتعليق العمل بفقرات من الدستور بتزكية، ثم تعيين الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح وليا للعهد
كان الحرص على منع التطاول على ولي العهد، أي أمير البلاد القادم، في استجوابات مجلس الأمة من الحجج المتداولة لتبرير الفصل بين ولاية العهد ورئاسة الوزراء في الكويت. صحيح أن رؤساء الوزارات في الكويت كانوا من الصف المتقدم من الأسرة الحاكمة، لكنهم بصفة عامة لم يكونوا من المرشحين لمنصب ولاية العهد. إلا أن ما حدث هو أن الفصل بين المنصبين لم يزد من التطاول على رئيس الوزراء في الاستجوابات وحسب، بل سهل التجرؤ على أمير البلاد نفسه. استساغ النواب لعبة الاستجوابات، وصاروا يتحدون القرارات التي يتخذها الأمير ويجادلون فيها. هذا الأمر حذر منه الأمير الشيخ مشعل الأحمد، ثم أشار إليه ضمن الخطاب الذي أمر فيه بحل مجلس الأمة وتعليق بنود في الدستور. حجةُ أنّ الفصل يساعد على حماية الذات الأميرية، سقطت في أكثر من موقف وامتحان.
تقف الكويت الآن في مرحلة مفصلية. لديها أمير للبلاد يتحلى بجرأة سياسية واضحة، وهناك ولي للعهد بخبرة حكومية وسياسية طويلة. لكن ولي العهد، وفق العرف الحالي القاضي بالفصل بين منصبي ولاية العهد ورئاسة الوزراء، سيبقى من دون صلاحيات تنفيذية تساعده على التدخل في عملية الإصلاح الواسعة التي ينتظرها الكويتيون ويسعى إليها الأمير ومعه عدد متزايد من الأسرة الحاكمة. هذا الوضع من الوارد أن يضيع إمكانيات متراكمة بحكم الخبرة والتجربة لدى الشيخ صباح الخالد تبدو الكويت بحاجة إليها في هذه المرحلة الحساسة.
لا شك أن قرارا من نوع إعادة العمل بعرف إسناد رئاسة الحكومة لولي العهد يحتاج إلى توافقات داخل الأسرة الحاكمة وفي الدوائر السياسية النافذة في المجتمع الكويتي، لكنه يبدو من أفضل الخيارات المتاحة للانطلاق في عملية الإصلاح. ومن الضروري ملاحظة أن الحكومة الحالية حصرت عضوية أفراد من الأسرة الحاكمة فيها بمنصبين سياديين فقط هما رئاسة الحكومة ونائب رئيس الوزراء الذي يجمع منصبيْ وزير الداخلية ووزير الدفاع، أي أن الأسرة الحاكمة بعيدة بالكامل تقريبا عن السلطة التنفيذية، وتركت المناصب، بما فيها مناصب سيادية مهمة، لوزراء مخضرمين في العمل الحكومي من خارج الأسرة، وهو ما يوسع مجال حركة الإصلاح والتعديل قبل استعادة العمل بمواد الدستور التي تفسح المجال مجددا لإجراء الانتخابات البرلمانية وعودة الحياة السياسية إلى مسار أكثر هدوءا وانتظاما.
قد يبدو قرار من هذا النوع عودة إلى الوراء، واستعادة لمركزية الحكم والصلاحيات وحصرها بين الأمير وولي العهد. لكن الكويت جربت الخيارات الأخرى ووصلت إلى ما وصلت إليه من مشاكل وفساد وصراعات. وسواء أقرت العودة إلى هذا العرف بشكل دائم أو مؤقت، أي للاستفادة من إمكانيات ولي العهد الحالي وخبرته لحين تحسن الوضع السياسي وعودة البلاد إلى جادة التنمية والتقدم، فإن أمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد يبدو مستعدا لتجاوز كل محاذير السياسة التقليدية في مسعاه للخروج بالبلاد من أزمتها.