خطاب النصر الإيراني: استعداء الخليج وتجنب الاشتباك مع إسرائيل

توقف الحرب ستتم قراءته في طهران على أنه تسليم من واشنطن بدور إيران في الإقليم والعودة إلى مربع الاستعداء لدول الخليج.
الخميس 2025/06/26
هل أنهت الحرب أوهام تصدير الثورة

من مصلحة العرب أن تظهر قوة مثل إيران لتقوم بالتصدي لإسرائيل وإفهامها أن الحرب ليست قدر المنطقة، وأن استعراض القوة يدفع إلى تأزيم المناخ الإقليمي ولن يخرج منه أيّ منتصر حتى لو امتلك قدرات متطورة وحاز على دعم أميركي مطلق.

لكن المشكلة هي أن صعود قوة أخرى بوجه إسرائيل لا يحقق توازن الردع فعليا، وسيحول المنطقة إلى ملعب لاستعراض القوة، ما تفعله إسرائيل الآن ستفعله إيران لاحقا في جزء من الإقليم، وقد فعلته قبل ذلك في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وهذا ما يفسر الاحتراز العربي الواسع على دور إيران في الإقليم.

بعض العرب، من العامة ومن المعارضات المأزومة والمغتربة عن مفاهيمها وخلفياتها الفكرية، ينحاز بشكل كامل لإيران ويصفق لعملياتها لأن فيها انتقاما لغزة وللقدس. المهم وجود طرف يضرب إسرائيل أيا كان، بقطع النظر عن خططه وأفكاره وبرامجه المستقبلية.

هذا الجمهور مزاجي في الأصل، فقد سبق أن صفق للرئيس العراقي الراحل صدام حسين في حربه على إيران واستدعى المفردات المذهبية والطائفية والتاريخية لإدانتها وإضفاء شرعية على حرب صدام ضد ثورة الخميني وقتها التي ما تزال فتية وتتلمس الدنيا.

◄ العودة إلى مربع الثورة واستعداء المحيط الإقليمي لتبديد فكرة أن إيران قد خسرت وتراجع نفوذها مع الضربات الأميركية – لإسرائيلية لن يحول دون الاستمرار في تحجيم دورها إقليميا ودوليا

وجود جمهور عربي داعم لإيران لا يعني أن التيار الغالب شعبيا وسياسيا ينظر إلى إيران من منظار الخصم الإقليمي. وهو أمر له مبرراته التاريخية والراهنة. إيران أمة تتبنى التمدد المذهبي لتثبيت النفوذ سواء من بوابة تصدير الثورة (بشكل معلن) أو عبر التبشير المذهبي (بشكل سري)، وهناك اختراق ناعم يتم على قدم وساق في الدول التي تتعامل مع إيران من زاوية المقاومة والعداء لإسرائيل.

وأيّ دولة تتبنى التمدد لا يمكن أن تبني علاقات سوية مع عمقها الإقليمي، وبدا هذا واضحا مع بداية ثورة 1979 ومقولة الهلال الشيعي ثم استثمار ثورات “الربيع العربي” للانتشار المباشر سياسيا وعسكريا في اليمن وسوريا على وجه الخصوص واستثمار المخاوف من الثورات التي ركبها الإسلاميون، ولو لفترات وجيزة، لاستقطاب المعارضات اليسارية والقومية.

بعد استهدف إسرائيل الوجود الإيراني في سوريا ولاحقا انكفاء حزب الله والكمون في العراق بسبب التهديدات الأميركية غيّر الإيرانيون الأدوات الناعمة من حملات شيطنة الخليج واتهامه بالعمالة والتبعية إلى خطاب يتبنى الحوار كخيار ظرفي لمنع انفراد الأميركيين بإيران واستغلال مخاوف الخليجيين في تنفيذ هجمات.

هذه مقدمة مهمة لفهم كيفية التفكير الإيراني في المرحلة القادمة بعد ما يصفه المسؤولون بالنصر في الحرب الحالية، والنصر هنا يُقصد به الخروج من الحرب دون شروط مذلة ولا استسلام بقطع النظر عن المفاعيل المادية للخسائر. توقف الحرب ستتم قراءته في طهران على أنه تسليم من الولايات المتحدة بدور إيران في الإقليم، والعودة إلى مربع الاستعداء الإعلامي والطائفي لدول الخليج، وخاصة السعودية.

وهذه حقيقة، ما يهم الأميركيين هو ضرب البرنامج النووي وتحجيم القوة الصاروخية حتى لا تهدد أمن إسرائيل إستراتيجيا.. أما أمن الخليج فأمر ثانوي، ولذلك من المستبعد أن يشمل الاتفاق بوقف إطلاق النار أيّ التزام إيراني تجاه الجيران.

سيحاول الإيرانيون تعويض الخسارة العسكرية أمام الولايات المتحدة وإسرائيل باستعادة النفوذ الإقليمي عبر تحريك الخلايا النائمة في الخليج ليس لتنفيذ هجمات تخريبية ولكن لإعادة الشحن الطائفي وتحريك عمليات الاستقطاب والتبشير في حركة شاملة لإظهار أن إيران لم تهزم وأنها قادرة على استعادة الزخم الذي صنعته ثورة 1979 ونفض الغبار عن مقولات قديمة مثل مقاومة الاستكبار و”الشيطان الأكبر” وترسانة المفردات التي كان لها مفعول السحر في السابق لاختراق شيعة الخليج والمنطقة وجرّهم إلى مربع إيران.

◄ خيار التغيير من داخل النظام سيحتاج إلى وقت طويل، لكنه يظل ممكنا قياسا بالرهان على معارضة افتراضية لا وجود لها على الأرض

وفي الداخل أيضا سيتم التركيز على إحياء مناخات ثورة الخميني لإعادة رص الصفوف وتعظيم القادة والمراجع الدينية للتغطية على الخسارة في أول اختبار عملي مع إسرائيل، ومنع اهتزاز ثقة الأنصار والمريدين في إيران والإقليم بقدرة إيران على تحقيق شعاراتها حتى وإن كان أغلبها استعراضيا ويستعمل أداة للاستقطاب وتعبيد طريق النفوذ في المنطقة.

ومن نتائج هذا “النصر” أن إيران قد كشفت في حركة ثانوية عن حقيقة تفكيرها تجاه الخليجيين. فاستهداف قطر بالقصف، رغم أن المسؤولين الإيرانيين يصفونها بالصديقة، يؤكد أن إيران لم تتجاوز بعد الثقافة التي زرعتها ثورة الخميني التي تقوم على كراهية الجيران، بمن في ذلك الذين يبدون تعاطفا عمليا مع إيران، خاصة قطر التي لعب إعلامها دورا كبيرا في الترويج لأفكار إيران وأذرعها في الإقليم وقدمت لهم خدمات جليلة إعلاميا وسياسيا ومذهبيا.

وكان تبرير إيران لاستهداف قطر مضحكا ويظهر مستوى الاستخفاف الذي تقابل به جيرانها الذين كان لهم الفضل في الوقوف معها إنسانيا واقتصاديا في فترة الحصار واتهم البعض منهم باختراق العقوبات الأميركية.

ورغم أن الهجوم على قاعدة العديد كان بتنسيق مسبق مع واشنطن وتعمد تجنب إلحاق أيّ أضررا بالقاعدة، ومفرغ من أيّ مفعول عسكري، فإنه أرسل إشارة سلبية لقطر ومن ورائها بقية الخليجيين بأنه لا يمكن الثقة مع إيران على الأقل في المدى القريب والمتوسط، وفي ظل النظام الحالي.

كانت إيران تريد من وراء ضرب قاعدة في الأراضي القطرية دون سواها طمأنة الإيرانيين وأنصار “تيار المقاومة” إلى أنها ردت الصاع صاعين لأميركا. وبدل ضرب قواعد أميركية في العراق أو سوريا اختار الإيرانيون قطر على أساس خاصرة رخوة، فهي صديق لإيران وسيتحمل شطحات قادتها، كما أن حدود ردها على الاستهداف سيكون منعدما، وهو أمر مفهوم تحت وقع الصدمة.

◄ صعود قوة أخرى بوجه إسرائيل لا يحقق توازن الردع فعليا، وسيحول المنطقة إلى ملعب لاستعراض القوة، ما تفعله إسرائيل الآن ستفعله إيران لاحقا في جزء من الإقليم، وقد فعلته قبل ذلك في العراق وسوريا واليمن ولبنان

ولاحقا سعى قادة إيران ومسؤولوها إلى تطويق الأمر، مع صدور مواقف خليجية واضحة وصريحة في دعم قطر ضد الهجوم الإيراني، وهو ما يعني أن استهداف قطر مسّ الخليجيين في الصميم واعتبروه استهدافا للكل، وليس مجرد لعبة استعراضية كما أرادها الإيرانيون، فمن يضرب مرة للتغطية على عجزه قد يضرب مرات أخرى وبوجه مكشوف.

لقد كسر الإيرانيون جدار الثقة التي تم بناؤها في السنوات الأخيرة مع دول الخليج، وخاصة السعودية، في مسعى لتبديد المخاوف المتبادلة ولجم أذرع إيران وخاصة في اليمن. بالنتيجة سيعود الوضع إلى المربع الأول مربع الريبة الذي يحقق أمرين، الأول تكثيف الاهتمام بالخليج لخيار الأمن بعقد اتفاقيات دفاعية جديدة مع الولايات المتحدة وتنشيط السباق نحو التسلح، والثاني أن إيران ستعيد نفسها إلى مربع العزلة الإقليمية.

لكن العودة إلى مربع الثورة واستعداء المحيط الإقليمي لتبديد فكرة أن إيران قد خسرت وتراجع نفوذها مع الضربات الأميركية – لإسرائيلية لن يحول دون الاستمرار في تحجيم دورها إقليميا ودوليا. في الخليج سيعود الاستنفار الأمني والرقابة لمواجهة أيّ خلايا نائمة أو محاولات تنفيذ عمليات لصرف الأنظار عن أزمة النظام في إيران. لكن الأهم أن إيران ستظل تحت الرقابة الأميركية، وخاصة إسرائيل التي كسرت حاجز الخوف من تنفيذ عمليات في قلب إيران وفي مواقع حساسة، وكذلك في أماكن أخرى إقليمية ودوليا.

ما قبل حرب الاثني عشر يوميا لن يكون هو نفسه ما بعدها، وبقدر هروب إيران إلى زمن الخميني للتغطية على العجز ستتكشف عمليات تطويقها وعزلتها طالما استمر النظام مؤمنا بخيار تصدير الثورة والتعامل بانتهازية مع المحيط الإقليمي مع الالتزام بخط أحمر وهو تجنب الاشتباك مع إسرائيل أو الأميركيين مرة أخرى.

خيار التغيير من داخل النظام سيحتاج إلى وقت طويل، لكنه يظل ممكنا قياسا بالرهان على معارضة افتراضية لا وجود لها على الأرض. ومن المتوقع أن تمهد التطورات الحالية لاستفادة كبيرة من التيار الإصلاحي الذي يهدف إلى تقليص أوهام تصدير الثورة والالتفات لتحسين واقع الناس وإشاعة الثقة والأمن في محيط إيران، وهو ما يأمله الخليجيون.

8