خطاب المصارحة الذي تأخر في تونس

ظهر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ليقول للمصريين إن بلادهم مقبلة على أيام صعبة، وإن عليهم أن يتكاتفوا، ولم يخف، تلميحا، خوفه من انتفاضة جديدة شبيهة بما جرى في 2011، بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها مصر.
وقال السيسي إن “ما حدث في عام 2011 كان بسبب الإحباط وعدم وجود أمل”، وهو ما يعني أنه واع بأن الوضع قد ينفلت من بين يديه في ظل الأزمة بالرغم من أن الرجل يحكم قبضته على كل شيء من السياسة إلى الإعلام إلى الأمن.
وأعتقد أن تونس تتشابه مع مصر في تفاصيل كثيرة، وربما وضعها أصعب، فالمصريون حصلوا على دعم خليجي سخي، ويحصلون باستمرار على وعود بالاستثمار آخرها مشاريع الصندوق السيادي السعودي، ومع ذلك فالأمور ليست على ما يرام، ما اضطر السيسي إلى الظهور ليطلب من الأشقاء والأصدقاء المزيد من الدعم والمساعدة في مرحلة صعبة يمر بها العالم.
فما الذي يمنع الرئيس التونسي قيس سعيد من أن يوجه خطابا مثل هذا إلى التونسيين فيصارحهم بوضعهم، أو يوجه نداء إلى الأشقاء الخليجيين فيطلب الدعم ويستعجل تنفيذ الوعود التي سبق أن قطعتها هذه الدول لدعم تونس سواء على ألسنة قادتها أو وزرائها وسفرائها.. المصلحة العامة أهم من عزة النفس الشخصية.
الآن الأوضاع تغيرت وفقدت تونس كل تلك المقومات التي كانت تمكّنها من تدبير أمورها، والأسباب كثيرة ما يهم الآن هو الإنقاذ في وضع لا يحتمل المناورة
لكن العاجل في كل هذا هو مصارحة التونسيين بحقيقة الأزمة الغذائية، التي لا ناقة لتونسي فيها ولا جمل، هي أزمة عالمية هبّت على دولة محدودة الإمكانيات فأربكتها.
ومن المنطقي أن يقول الرئيس سعيد في خطاب هادئ وصريح إن أزمة الأسعار وفقدان بعض المواد الأساسية مثل الحليب والسكر والزيت ليست فقط بسبب الاحتكار والمحتكرين، فهذا تفصيل قائم وسبب من ضمن عدة أسباب أبرزها أن البلاد بلا أموال ولا إمكانيات وغير قادرة على توريد المواد الأساسية على المدى الطويل.
هي هكذا طول تاريخها تعيش على إمكانياتها المحدودة وكانت تستفيد من الأمن والاستقرار، والسياحة، ومن دبلوماسية براغماتية ترفع شعار “ابعد عن الشر وغنيلو”، فهي صديقة الجميع وبلا أعداء تقريبا، ما سهّل عليها أن تكون قبلة للمؤتمرات واللقاءات الإقليمية والدولية.
الآن الأوضاع تغيرت وفقدت تونس كل تلك المقومات التي كانت تمكّنها من تدبير أمورها، والأسباب كثيرة. ما يهم الآن هو الإنقاذ في وضع لا يحتمل المناورة ولا تسجيل النقاط ولا انتظار رضاء هذه الجهة أو تلك محلية كانت أو خارجية.
ولذلك نرى أن الرئيس سعيد يحتاج إلى أن يخرج في خطاب مصارحة إلى التونسيين يجيب فيه عن كل الاسئلة التي تدور في الأذهان، فيبرّئ نفسه أولا بعد أن بدأت توجه له الاتهامات بالتقصير والعجز عن إدارة الأزمة في وقت تحتاج فيه البلاد إلى شخصية حازمة تعطي الأولوية للملف الاقتصادي والاجتماعي وتسد أذنيها عن المزايدات وبيانات التنديد التي لا تتقن المعارضة غيرها وبالتالي لن تتوقف عنها. والرئيس ليس من دوره أن يعلق يوميا عمّا يقال ولا أن يغرق في تفاصيل أغلبها لا تستحق التعليق من مقام الرئيس ويمكن أن يتم تجاهلها أو توكل مهمة التعاطي معها إلى وزراء أو مستشارين.
ليس عيبا أن يظهر قيس سعيد على شاشة التلفزيون الرسمي ويخاطب التونسيين بهدوء ووضوح ليقول لهم إننا في وضع صعب، ويقدم لهم مقاربة رسمية للأزمة وتفاصيلها، وبماذا تفكر الحكومة، أيّ حدود لتقليص الدعم، ووفق أيّ خطة، ما هي الإصلاحات المطلوبة وما تأثيرها على الناس، بدلا من ترك الموضوع للإشاعات وتأويلات المعارضة.
الشارع وقف مع الرئيس سعيد بقوة في الملف السياسي منذ 25 يوليو 2021 من الاستفتاء إلى الدستور الجديد إلى مواقفه الحاسمة من الطبقة السياسية، وهذا الدعم سببه الوحيد هو أنهم يحتاجون إلى رئيس نزيه وصريح ومكاشف بعيدا عن سمات المراوغة والمداهنة وكثرة الوعود التي عاشوها خلال السنوات العشر التي تلت الثورة.
هناك خوف حقيقي من حكاية ضغوط صندوق النقد الدولي على تونس، وأن حصولها على القروض مرهون بإصلاحات من بينها رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات، وهذه خطوة يمكن أن تضر بنسبة عالية من التونسيين من سكان الأحياء الشعبية المحيطة بالمدن الكبرى، وسكان المدن والقرى والأرياف في مناطق الظل في أغلب مناطق البلاد. كما أنها ستضرب الطبقة الوسطى في مقتل.
هل صحيح أن الدولة لديها خطة لتعويض الفارق بين الدعم وانعدامه لهذه الفئات بأن تمنحها منحا مالية في قالب رواتب قارة. هل تقدر الدولة على هذا خاصة أن إمكانياتها المالية شبع معدومة، وإذا مدت يدها لقرض الصندوق ووزعت منحا ورواتب، فلماذا تأخذه طالما أنه لن يساهم في تحريك الاقتصاد ومحاولة وقف تدهوره.
لنعترف أن الدولة حاليا عاجزة عن توفير المنح القارة للفئات الضعيفة وقيمتها 200 دينار (حوالي 60 دولارا) شهريا، وهي تشمل أعدادا قليلة من خارطة من يستحقونها، فضلا عن تسلل الفساد في ضبط تلك القوائم. فما بالنا إذا تضاعفت هذه القوائم مرات ومرات وتمدد بداخلها الفساد والمحسوبية وتسللت المقاييس العشائرية والحزبية والشعبوية.
وأولى بشائر التطمين، جاءت مساء الجمعة من الرئيس سعيد نفسه الذي أكد خلال لقائه مع وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي على أن “الدولة لن تتخلى عن دورها الاجتماعي وعن ترسيخ الحق في الصحة والتغطية الاجتماعية وغيرها من الحقوق الأساسية في الواقع لا في النصوص فقط”. لكن لا يعرف إن كان الأمر مرتبطا بمخاوف التونسيين من إصلاحات صندوق النقد أم أن الكلام رد على تصريحات أو اتهامات للدولة بالتقصير من أحد المعارضين.
التونسيون يعرفون أنهم في أزمة، وأن الدولة لا تمتلك الأموال لإدارة الأزمة، والأفضل أن يسمعوا الأرقام والتفاصيل من رئيسهم بدل أن يسمعوها من أفواه خبراء واختصاصيين بأسلوب يسيطر عليه الجفاف والمبالغة والتخويف.
ما يهم الناس أن تتولى الدولة مصارحتهم وفي نفس الوقت طمأنتهم بأنها قادرة على التحرك وتشركهم في التفكير من أجل الخروج من الأزمة.