خِطاب الجِدّية والحزم في ظل الملكيّة القائدة للدّولة - الأمّة المغربية

بعد أربع وعشرين سنة على تربع الملك محمد السادس على عرش أسلافه، وإذا كان لاستقرار المغرب وتعزيز مكانته الإقليمية والدولية كلمة سر فهي النظام الملكي والدور التاريخي الذي تلعبه المؤسسة الملكية.
الخميس 2023/08/03
مواقف ثابتة ورؤية مستقبلية

تحتفل الأمة المغربية بالذكرى الرابعة والعشرين لاعتلاء العاهل المغربي الملك محمد السادس عرش الدولة العلوية في يوم مشهود من أيام المملكة المغربية، الذي يجسد التلاحم العضوي التاريخي بين الجماهير الشعبية والمؤسسة الملكية القائد التاريخي والوحيد لنضالات وتطلعات الشعب المغربي في الرقي والازدهار.

إن هذا اليوم الوطني يعكس قيم الوحدة الوطنية بين المغاربة، والتزامهم الراسخ بالمسار الحداثي المتمسك بمفردات وخصوصيات الهوية الحضارية المغربية الضاربة جذورها في عمق التاريخ، والذي يشكل اختيارا لا رجعة فيه تحت قيادة الملك محمد السادس الذي رسم نموذجاً مشرفاً للحكم الرشيد والتنمية الشاملة والارتباط المباشر بقضايا رعاياه والالتزام الكامل بخدمة طموحاتهم في العيش الكريم، كما يظهر بوضوح العمل الدائم لتعزيز القيم الحضارية والإنسانية والدينية التي تميّز الشعب المغربي، وهو ما أكد عليه الملك في خطابه قائلا “لقد أنعم الله تعالى على بلادنا بالتلاحم الدائم، والتجاوب التلقائي، بين العرش والشعب، وهو ما مكّن المغرب من إقامة دولة – أمة، تضرب جذورها في أعماق التاريخ”.

المملكة المغربية تحت قيادة الملك محمد السادس تعتبر نموذجاً للتعايش السلمي بين مختلف الثقافات والديانات، وتتمتع بمكانة مرموقة على المستوى الإقليمي والدولي، وتعتبر شريكا موثوقا للسلام والأمن والاستقرار لمختلف القوى والدول الفاعلة في المحاور الجيوسياسية الكبرى، وذلك بفضل الرؤية الحكيمة للملك محمد السادس الذي يضع في صلب اهتماماته القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمسّ رعاياه، ويعمل بلا كلل على تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية، في إطار مغرب متعدد ومتفرد بتاريخه.

ذكرى عيد العرش ليست مجرد احتفال سنوي أو عيدا وطنيا نرفع فيه الأعلام وصور الملك وتقام فيه الحفلات، إنما هو يوم يذكرنا بأن جميع أطياف الأمة المغربية تضع ثقتها في ملك البلاد

المتأمل لتاريخ الأمة المغربية عبر العصور يشعر بالفخر لشعب عريق سطر أبناؤه وبناته ملاحم في الذود عن الأرض وحماية المقدسات، ملتفين حول العرش المغربي ومؤسسات الدولة. ولك صديقي القارئ في كتب التاريخ الإنساني أن تطالع ما سطره التاريخ من ملاحم خالدة في معركة الزلاقة ومعركة الأرك ومعركة الدوندونية ومعركة وادي المخازن وملاحم الجهاد البحري والمعارك المقدسة لتحرير الثغور وصيانة استقلال الوطن، وبناء الدولة المغربية بهويتها الحالية في عهد المخزن العلوي الشريف إلى معركة التحرير من ربقة الاستعمار مع بطل الأمة المغفور له الملك محمد الخامس، والملحمة الخالدة المتمثلة في المسيرة الخضراء مع مبدع المسيرة وأب الأمة المغفور له الملك الحسن الثاني، إلى العهد الزاهر لقائد المسيرة التنموية المتجددة مع الملك محمد السادس.

في العقود الأخيرة كانت الدولة المغربية ولازالت تخوض معارك حقيقية في كل المجالات والميادين، حيث استطاع المغرب مواجهة الرياح العاصفة للخريف العربي وتداعياته المدمّرة على استقرار ووحدة الشعوب، إلى ملحمة إنجاح الحجر الصحي والانتصار على الوباء، وتكريس السيادة الترابية في ملحمة الكركرات، ثم العمل على ابتداع وتنزيل نموذج تنموي مغربي يقدم حلولا مغربية لإشكالات مغربية بأياد وعقول وكفاءات مغربية.

جدية المغاربة والتزامهم الثابت  بقدسية الأرض والارتباط الدائم بالعرش العلوي هو ما يفسر تفرد هذه الأمة وقدرتها على النهوض في لحظات تاريخية فارقة، لتبهر العالم بقدرتها على الإبداع والعطاء، وهو ما عبر عنه الملك محمد السادس قائلا “المغاربة معروفون، والحمد لله، بخصال الصدق والتفاؤل، وبالتسامح والانفتاح، والاعتزاز بتقاليدهم العريقة، وبالهوية الوطنية الموحدة، والمغاربة معروفون على الخصوص بالجدية والتفاني في العمل”.

الجدية التي تكلّم عنها الخطاب الملكي تجدها في المشاريع الملكية التي يشرف عليها ويواكبها محمد السادس بشكل مباشر كورش الحماية الاجتماعية والمشاريع الإستراتيجية الكبرى، كمشروع ميناء طنجة المتوسط، وقريبا ميناء الناظور شرق المتوسط وميناء الداخلة الأطلسي ومشروع طريق المغرب – أفريقيا العابر للصحراء المغربية، ومشاريع تشجيع التصنيع في مجال الطيران والسيارات، وإستراتيجية تدبير الموارد المائية التي تحظى بعناية ملكية لما تشكله من انعكاس على الأمن القومي للوطن، وفي رؤية الملك المتبصرة للعمل الدبلوماسي الذي يراكم انتصارات ميدانية وسياسية متلاحقة في معركة الوحدة الترابية.

الجدية الملكية تتمثل في العلاقة الأبوية مع الأمة المغربية، مع الثبات على المبادئ والوفاء للقيم الإنسانية والتقاليد الحضارية والتمسك بالشخصية المغربية المتفردة والإصرار على قيام الملكية بدورها الدستوري كاملا في كل الظروف، وسرعة الاستجابة والتفاعل مع رغبات الأمة والحزم في اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب.

جدية المغاربة والتزامهم الثابت بقدسية الأرض والارتباط الدائم بالعرش العلوي هو ما يفسر تفرد هذه الأمة وقدرتها على النهوض في لحظات تاريخية فارقة، لتبهر العالم بقدرتها على الإبداع والعطاء

استلهام الجدية في مواكبة المشاريع الوطنية والسهر على خدمة الشعب المغربي هي التوليفة المناسبة للاستمرار في تحقيق المنجزات بشكل سليم وفاعل، وهو ما أكد عليه الملك محمد السادس قائلا “إن ما ندعو إليه، ليس شعارا فارغا، أو مجرد قيمة صورية. وإنما هو مفهوم متكامل، يشمل مجموعة من المبادئ العملية والقيم الإنسانية. فكلما كانت الجدية حافزنا، كلما نجحنا في تجاوز الصعوبات، ورفع التحديات”.

الخطاب أكد على دور الشباب في تحقيق النهضة الشاملة والتنمية المستدامة باعتبارهم ركيزة رئيسية في بنية المجتمع، فالشباب هم المستقبل والأمل الذي تعتمد عليه المجتمعات في بناء المستقبل. الشباب يمتلكون الحماس والإبداع والطاقة اللازمة للعمل على تحديث المجتمع مما يتطلب الجدية من الفاعل المؤسساتي والمجتمعي في فتح الآفاق المناسبة القادرة على استيعاب قدرات الشباب المغاربة في الإبداع والابتكار وتوفير الفرص التعليمية والتدريبية المناسبة والمتكافئة، وتحفيزهم على المساهمة في البناء التنموي والانخراط في الورش الكبرى كشريك متقدم، ودعم رغباتهم في العمل التطوعي والمجتمعي، وتمكينهم من العمل على تحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية التي يطمحون إليها حيث أكد الملك “الشباب المغربي، متى توفرت له الظروف، وتسلح بالجد وبروح الوطنية، دائما ما يبهر العالم، بإنجازات كبيرة، وغير مسبوقة”.

والشباب المغاربة قد أظهروا هذه الحقيقة في نتائج تاريخية بكأس العالم قطر 2022 بأسلوب مغربي ينهل من تركيبة الشخصية المغربية بخصوصياتها المتفردة في العمل والمحبة للسلام، ترجمه الأسود في الميدان بلعب نظيف ومهارات تنافسية وأداء جماعي وسلوك إنساني أدهش العالم.

الخطاب عدّد مجموعة من مجالات اشتغالات الدولة التي تعتمد مفهوم الجدية كمنهاج للعمل ومراكمة النتائج الإيجابية، وإنعاش الاستثمار، وتثمين المؤهلات البشرية والاقتصادية للبلاد، كما في الأداء القوي والمهني لمؤسسات الدولة الإستراتيجية في ملف الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة، والذي يعتبر من أهم مرتكزات النجاح وهو ما أكده العاهل المغربي قائلا “تتجسد الجدية عندما يتعلق الأمر بقضية وحدتنا الترابية. فهذه الجدية والمشروعية هي التي أثمرت توالي الاعترافات بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية؛ وآخرها اعتراف دولة إسرائيل، وفتح القنصليات بالعيون والداخلة، وتزايد الدعم لمبادرة الحكم الذاتي”.

تطوير العلاقات مع دولة إسرائيل وموقفها الجدي من مغربية الصحراء لا يعني تنكر المغرب لمواقفه الثابتة إزاء عدالة القضية الفلسطينية حيث أكد العاهل المغربي على “موقف المغرب الراسخ، بخصوص عدالة القضية الفلسطينية، والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق، في إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية؛ بما يضمن الأمن والاستقرار لجميع شعوب المنطقة”.

استلهام الجدية في مواكبة المشاريع الوطنية والسهر على خدمة الشعب المغربي هي التوليفة المناسبة للاستمرار في تحقيق المنجزات بشكل سليم وفاعل

في ظل حالة اللايقين التي يعرفها العالم بسبب الانعكاسات المدمرة لجائحة كورونا وتداعيات صراع المحاور العالمية وما أسماه الخطاب الملكي باهتزاز منظومة القيم والمرجعيات، اليوم نحن في حاجة إلى التشبث بقيم “تمغربيت” الأصيلة التي تؤطر طبيعة تفاعلاتنا في المجتمع، حيث يشكل شعارنا الخالد الله – الوطن – الملك الإطار المرجعي لعلاقاتنا والمحدد الأول والأخير لإخلاصنا لقضايا الوطن ولاعتزازنا بتاريخه الحضاري، عن طريق التمسك بالوحدة الترابية للمملكة التي تبقى حقيقة تاريخية لا يمكن تجاوزها، فاستحضار قيمنا الراسخة في مخيالنا الجمعي هو أول الطريق للانفتاح على العالم وعلى أساسها تتشكل نظرتنا إليه، ونواصل المسار التنموي الذي يضعه الملك محمد السادس في صلب أولوياته تحقيقا لطموح جماعي يهدف إلى تنزيل اختيار الدولة الاجتماعية الحامية، تماشيا مع مضامين دستور 2011 الذي أكد في فصله الأول على البعد الاجتماعي للدولة.

هذا البعد النبيل الذي ظهر جليا كأحد الدروس الكبرى المستخلصة من جائحة كوفيد – 19 حيث استطاع المغرب أن يقدم تجربة رائدة في تدبير هذا الوضع غير المسبوق، وهي التجربة التي كانت محط إشادة واهتمام العديد من الهيئات الدولية، وجنبت البلاد كارثة صحية كبرى.

خطاب عيد العرش لهذه السنة يمكن اعتباره تكريسا للموقف المغربي من الجزائر والشعب الجزائري، وللحقيقة التاريخية فالدولة المغربية ظلت طوال تاريخها إلى جانب الشعب الجزائري في كل محطاته التاريخية، حيث أن هذا الخطاب يعيد التذكير بتصور المملكة المغربية للعلاقات مع الجزائر في بعدها الإستراتيجي والسياسي والشعبي، وأنهى بشكل عقلاني ومسؤول كل محاولة لمس جوهر هذه العلاقة التاريخية العابرة لكل الأزمات المفتعلة والصراعات المجانية، وأكد بشكل مباشر على نضج وجدية الخطاب الرسمي المغربي من خلال التأكيد على استقرار العلاقات المغربية – الجزائرية، ورفض المغرب الانجرار وراء خطاب المؤامرة، ونستشف دعوة الجزائر على أعلى مستوى لطيّ صفحة الخلاف المفتعل، وإنهاء سوء الفهم التاريخي، وتجاوز المنطق التوسعي للرئيس الراحل الهواري بومدين، حيث أن الدولة المغربية بكل الجدية الممكنة متمسكة بثبات مواقفها السياسية الدبلوماسية واستعدادها الكامل لتحمل مسؤوليتها التاريخية كدولة – أمة لإعادة بناء كيان إقليمي ديمقراطي متكامل ومتضامن هو “مغرب الشعوب” في ظل ظروف اللايقين الاقتصادي والاجتماعي الحالية المليئة بالتحديات الأمنية التي تعيشها الشعوب المغاربية، في ظل أحداث إقليمية متقلبة في واقع دولي مضطرب، ما يتطلب تعزيز جهود الوحدة والتعاون بدلا من الفُرقة والعداوة المفتعلة.

الموقف من الجزائر في خطاب عيد العرش هو رسالة إلى الجميع وبشكل جدي بأن المغرب متشبث بثوابته الدبلوماسية بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، والتمسك بالحوار الجدي البناء من منطلق قوة والاصطفاف وراء الشرعية الدولية والشفافية والوضوح في كل مساراته السياسية مع الجيران، كما يتمسك بسيادته الكاملة على اتخاذ قراراته الإستراتيجية ولا ينصاع لأيّ مؤامرة تستهدف ليّ ذراعه وتحقيق مكتسبات على حساب سيادته ومصالحه.

تطوير العلاقات مع دولة إسرائيل وموقفها الجدي من مغربية الصحراء لا يعني تنكر المغرب لمواقفه الثابتة إزاء عدالة القضية الفلسطينية

واليوم بعد أربع وعشرين سنة على تربع الملك محمد السادس على عرش أسلافه، وبعد قرون عاشتها الأمة المغربية في ظل الدولة العلوية، فإذا كان لاستقرار المغرب وازدهاره وتقدمه وتعزيز مكانته الإقليمية والدولية على مر القرون التي مضت والقرون القادمة كلمة سرّ فهي النظام الملكي والدور التاريخي والحضاري الذي تلعبه المؤسسة الملكية في تدبير العلاقات بين كل مكونات وأطياف الشعب المغربي بالجدية اللازمة والأبوية الصادقة والالتزام التام بخدمة مصالح الوطن والشعب المغربي.

ذكرى عيد العرش ليست مجرد احتفال سنوي أو عيدا وطنيا نرفع فيه الأعلام وصور الملك وتقام فيه الحفلات، إنما هو يوم يذكرنا بأن جميع أطياف الأمة المغربية تضع ثقتها في ملك البلاد لحمايتها وحماية سيادتها ووضعها في مكانتها الطبيعية بين مصاف الأمم والقوى الدولية، كما عهدناها منذ قرون وكلنا ثقة بأن الملك محمد السادس يقود البلاد بحكمة الأجداد وبإصرار على استكمال المسيرة وتحقيق طموحنا الجماعي في مغرب التمكين والسيادة والجرأة كما قادها أجداده بكل شرف ومسؤولية، وهنا نستلهم كلمات من ذهب لأب الأمة المغفور له الملك الحسن الثاني في أول خطاب عرش وجهه إلى الأمة المغربية قبل ستين سنة قائلا “لم تفتأ وقائع التاريخ تبرهن على أن الشعب المغربي شعب مجيد عظيم تزخر عبقرياته، وتترادف معجزاته، وتتوالى آياته، وإذا كان من تعليل لبقائه على الدهر وصموده أمام جميع العواصف وخروجه منها عالي الرأس موفور الكرامة فهو ما يتحلى به أبناؤه من فضائل ومروءات وما يسودهم على الدوام ولاسيما في الأوقات العصيبة من إخاء وتعاطف وتراحم وتسامح، وتضامن وتعاون واجتماع لكلمة ووحدة صف واحترام للكبير، وحنوّ على الصغير، وشدة بأس، وبعد نظر، وتمسك بالقيم الروحية السامية، والتقاليد السليمة، فليحافظ كل فرد من شعبي على هذه الأخلاق، وليبرهن على وعيه ونضجه ومعرفته بحقوق المواطنة وواجباتها، وليحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، وليجعل الإخلاص شعاره في العمل سواء كان موظفا أو مثقفا أو تاجرا أو فلاحا أو صانعا أو عاملا، فإنما الأمم بأخلاقها لا بوفرة أعدادها”.

بهذه الكلمات أنهى المُعَلِّم أبوالأمة المغفور له الملك الحسن الثاني أول خطاب لعيد العرش يوم 3 مارس 1963 ليؤسس معالم المغرب الجديد، المغرب الذي واجه التحديات والمؤامرات الداخلية والخارجية واستطاع الانتصار في معركة التحرير واستعادة الأرض المقدسة والذود عن التراب الوطني بالغالي والنفيس.

9