خرج ولم يعد: ماذا يفعل المثقف المصري الآن بعد أن تم سلخه من أدواره

من المسؤول عن غياب المثقفين.. السلطة أم المجتمع أم التكنولوجيا أم المثقفون أنفسهم.
الاثنين 2022/10/10
مثقف خارج التأثير (لوحة للفنان بسيم الريس)

على غرار أغلبية الدول العربية تعاني مصر من تراجع دور المثقفين في الحياة العامة، إذ انحسر حضورهم واكتفى بعضهم بالصمت والعزلة أو الكتابات الرمزية البعيدة عن الواقع المحبط المحيط بهم بأزماته الكثيرة والمتشابكة بينما المثقفون إما مهادنون للسلطة ومنفذون لتوجهاتها أو بعيدون عنها، وهذا ما نطرحه في هذا التحقيق مع عدد من الكتاب والباحثين المصريين.

تعاني مصر في الوقت الراهن من أزمات تطال مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية وغيرها، فيما تتراجع أدوار المثقف الذي باتت علاقته بالسلطة عامة وإدارتها لمختلف الملفات المرتبطة بهذه المجالات تتخذ من شعار إيثار السلامة موقفا عاما، وهو أمر بات مكشوفا حيث يستطيع أي متابع محايد وموضوعي أن يرى تخلي المثقف عن التعرض للقضايا التي تثار داخل هذه المجالات، والبعد عن مواجهة تعنت السلطة وإصرارها على ما تقره من قرارات الكثير منها لا يخدم الصالح العام.

إن السؤال عن أدوار للمثقف في ظل سلطة تتعامل بالمثل القائل “ودن من طين والثانية من عجين” صار سؤالا باهتا عديم النفع، لكن سؤال ماذا يفعل المثقف الآن بعد أن تم سلخه من أدواره، هو السؤال الذي ينبغي البحث عن إجابة عليه، وهي إجابة بل إجابات متعددة بعضها جارح إلى حد كبير وبعضها عادي إذا تتبعناه بموضوعية.. “العرب” طرحت هذه القضية على عدد من المثقفين، فجاءت رؤاهم ثرية ومتنوعة في السطور التالية.

هبة الشريف: للمثقف في النهاية مصالح متشابكة مع الطبقات المسيطرة

تقول أستاذة الأدب المقارن والمترجمة هبة الشريف إن “للنخب الثقافية رأس مال ثقافي مثل النخب الاقتصادية مع اختلاف مضمون رأس المال. في حين أن النخب الاقتصادية تعمل في العادة في مستويات التجارة الكبرى، تمتلك النخب الثقافية رأس مال ثقافي يتمثل في المؤهلات العلمية والمعرفة. ويعمل مالكو رؤوس الأموال الثقافية من أجل الحفاظ على امتيازاتهم والدخول إلى ‘الأسواق‘ التي تكفل لهم ‘استثمار‘ رأس مالهم الثقافي لتحقيق الربح سواء من مبيعات المنتجات الثقافية أو من الكتابة في الصحف أو من الحصول على المناصب”.

المثقف المدجن

وتؤكد أن “للمثقف في النهاية مصالح متشابكة مع الطبقات المسيطرة “اقتصاديا” أو مع الدولة أو مع المؤسسات الأجنبية، ويسعى للحفاظ على تلك المصالح. ولكن تفرض القنوات والمنصات التي يطل من خلالها المثقف على جمهوره أطرًا حاكمة. فمن يختار القنوات الحكومية لن يستطيع انتقاد السياسات الحكومية في حين يستطيع ذلك من يختار القنوات الأجنبية، عربية أو غربية، إلا أنه لن يستطيع في المقابل أن ينتقد سياسات حكومات هذه البلاد. ومن يختار أن يكون ضمن السوق العالمي الغربي فإنه محكوم أيضا بتوجهات هذا السوق رغم ادعاء هذا السوق لحرية التعبير، فالمثقف هنا لن يكون قادرا على الإعلان مثلا عن أفكاره “الحقيقية” فيما يخص المرأة أو العلاقات أو الأديان”.

وتتابع “هكذا يضطر بعض المثقفين إلى السكوت عن قضايا بعينها، ويضطر البعض الآخر إلى السكوت عن قضايا أخرى وفقا للقنوات التي يعرضون من خلالها أفكارهم. ومع ذلك، فإن تعدد القنوات واختلاف شروطها الحاكمة تتيح في النهاية تعدد الرؤى والأصوات والأفكار ليختار منها المتلقي ما يشاء. تنشأ المشكلة حين تعمل الحكومات على تقييد هذه القنوات وفرض قنوات بعينها، سواء كانت تلك القنوات حكومية أو مملوكة للطبقة المسيطرة اقتصاديا التي تربطها مصالح متشابكة مع الحكومات، فهنا لن يجد المتلقي للأسف إلاّ صوتا واحدا يعمل لصالح تلك الطبقة المسيطرة”.

ويرى الشاعر جمال القصاص أن “مصر تعاني والعالم كله يعاني، حروبا وكوارث وأوبئة، خونة وجواسيس في كل مكان، تواطؤات متعددة الأدوار والأقنعة. ما الذي يراد من المثقف إذن في هذا الجو المسموم. ليس هناك أذنٌ من عجين، وأخرى من طين، هناك فقط منطق القوة والنفوذ”.

جمال القصاص: لقد قمنا بتدجين المثقف ونكلنا به وأشبعناه قتلا

ويضيف “لقد قتلنا المثقف، نكلنا به وأشبعناه قتلا، فهو مدجن وذليل، عاجز عن رفع رأسه، ليهش ذبابة سوف تصيبه بالارتكاريا، والأبشع من ذلك كله أننا لم ندفنه، حتى في مقابر الصدقة والفقراء، بل تركناه جثة تتعفن على قارعة الطريق، واتخذنا منها أمثولة نتاجر بها بين الحين والآخر، صحافيا وأدبيا وفنيا، وفي الأعياد الكبرى والصغرى، وغيرها من المناسبات السمجة. لماذا لم نأخذ هذا المدجَّن المريض إلى مصحة عقلية، هل لأننا الأولى بذلك، الأكثر عوزا واحتياجا، لنميز ما بين إشراق العقل وهلاوس الجنون، أم لأن السلطة والاستخبارات العامة والخاصة، الأرضية، وفوق الأرضية لا تريد ذلك، لا تريد للعبة الدُّمى أن تشفى، أن يكون لها صوت وملامح ورؤية ومضمون؟”.

ويتابع “ما زلنا نريد من المثقف أن يصرخ لكي يصغي إليه الآخرون وربما يزعجهم، ولا نريده أن يصرخ أو حتى يهمس كي يصغي إلى نفسه، فهذا فعل مشبوه غير ثوري. هكذا، نتشدق بالمثقف الثوري، ابن النبل والعفة، الباحث عن الحقيقة والعدل، أين هو؟ في الحانة يهذي: هذا شعار رفعه الثوار في الحقل ضد حشرة أكلت ساق السنبلة، وهذا شعار ابن نكتة خرجت من ثقب الطبقة ولا تزال تفتش في الميدان عن بقعة ضوء تقيء فيها روحها. إذن لا تسألني: ماذا يفعل المثقف الآن بعد أن تم سلخه من أدواره؛ اسأل من سلخه أولا”.

ابن الخطايا

يلفت القاص والروائي أشرف الصباغ إلى أن حكمنا الصارم على المثقف (أو النخب الثقافية) في الوقت الراهن ناجم عن المبالغة في أدوار المثقف والنخب الثقافية، وتحميل المثقفين “رسالات” تكاد تتقارب مع الرسالات الدينية والسماوية. ومن جهة أخرى، يبدو أن هذه الأدوار والرسالات راقت للمثقفين بحكم تركيباتهم الذهنية والنفسية وبحكم التربية والنشأة، فتماهوا معها وتحولوا إلى “رسل” و”أنبياء” نظريين للغاية، ومتعاليين للغاية، ومنفصلين عن الواقع.

أشرف الصباغ: المثقف ابن مجتمعه وابن خطايا ومثالب النظام السياسي

ويضيف “في الحقيقة، فالمثقف هو حلقة ضمن سلسلة طويلة من الأشخاص والأدوار. ولا يمكن لهذه السلسلة أن تكون فاعلة في حال انفصال حلقاتها، أو عدم تشغيل هذه الحلقات ضمن منظومات مؤسساتية. هنا يصبح كل مثقف عبارة عن أسطوانة فارغة تدور حول نفسها وتصدر الكثير من الهراء والضجيج، وربما إثارة الصداع والتسبب في الكثير من الأضرار. وهذا هو وضعنا الحالي في الثقافة والعلوم والفكر والإعلام وكافة مجالات الحياة”.

ويتابع “نحن لا نعيش في جمهوريات مثالية. ومن الطبيعي أن يكون لكل نظام سياسي نخبه الثقافية والفكرية التي تمثله وتعمل على بلورة رؤاه وتصيغ له الأطر النظرية لسياساته في كافة المجالات. وبالتالي، فالمسألة لا تتعلق بانهيار أو بتداعي أو بانتهازية هذه النخب بقدر ما تتعلق بعقلانية النظام السياسي، ومأسسة الدولة، والتعامل مع المجتمع باعتباره بنية راشدة وعاقلة وقادرة على تحمل المسؤولية. أما فساد النظام السياسي الذي يمكن أن نطلق عليه مصطلح ‘الفساد السياسي‘ في الدولة، فهو ينتج لنا كل هذا المسخ والكائنات المشوهة والجاهلة الواقفة أصلا على أرضية هشة من المعرفة والخبرة والطموحات”.

ويبين أن “الفساد السياسي” من حيث التعريف والبنية هو أساس كل أنواع الفساد، وله أركان مهمة بداية من تداول السلطة وإطلاق الحريات وفصل السلطات ومنع توارث المناصب إلى تفعيل دور البرلمان والسلطة القضائية وتغيير هوية المجال الإعلامي ووسائل الإعلام باعتبار أن دورها الرقابي لا يقل عن دوري البرلمان والقضاء.. المثقف ضمن هذه المنظومة هو عبارة عن ترس صغير يجب أن يقوم بدوره من دون أي مبالغات أو حمل رسالات مقدسة لكي لا نصنع منه بعد ذلك ضحية أو نحوله إلى بهلول وندفنه في أضرحة نتبرَّك بها بعد ذلك، لنساهم، ونكرس للمزيد من الغيبوبة والغيبيات والعودة إلى الماضي واللجوء إلى الماورائيات”.

ويؤكد الصباغ أن المثقف ابن مجتمعه، وابن زمنه من جهة، وابن خطايا ومثالب وانحطاط النظام السياسي من جهة أخرى. إضافة إلى أمراضه الشخصية والنفسية، وتطلعاته وانتهازيته وتهافته. وهو أيضا الذي يمكنه أن ينتج ويبدع ويتألق عندما يتم توفير الظروف والشروط الملائمة. أي أننا لسنا أمام حالة جامدة أو تعريف دوغمائي. هذا المثقف لا يمكنه، مهما كتب شعرا ورواية، ومهما أخرج من أفلام ومسرحيات، ومهما نَظَّر وكتب في الفكر والأيديولوجيا، لا يمكنه أن يشعل ثورة أو يجري تغيرات “ثورية راديكالية”، سواء في المجتمع أو في بنية الدولة ونظامها السياسي. الثقافة والمثقفون لديهما أدوار أخرى تماما تتعلق بالطلب الاجتماعي والطلب العلمي التقني والطلب الثقافي المعرفي. وهذا مجرد حلقة ضمن سلسلة من الحلقات الأخرى، لكي نستطيع أن نتحدث عن تغييرات أو تحولات جوهرية في بنية المجتمع والدولة والمنظومة السياسية”.

الهيمنة الغاشمة

يوضح المفكر نبيل عبدالفتاح أن المثقف والسلطة سؤال قديم منذ قضية دريفوس الشهيرة وصولا إلى المثقف الحداثي، لكن المصطلح والدور والوطنية خرجت من رحم الصراع مع السلطة، في النظم الديمقراطية، والقيمة الرمزية، والفعلية للحريات الدستورية. كانت حماية الأدوار الوطنية جزءا من دولة القانون، والحق. كان دور المثقف خارج أركان الدولة، والسلطة السياسية، ومتمردا وثائرا على كل ما هو سائد من سلطات دينية وأخلاقية وسياسية لهدم الأبنية السائدة، وغير الصالحة للحياة الإنسانية، ويحلق ما شاء له التحليق فوق الركام والرماد. حمى المثقف الدستور والقوانين، وبعضا من الحماية المجتمعية.

ويضيف “في بلادنا خرج المثقف من قلب عملية بناء الدولة، من خلال البعثات إلى أوروبا، والمدارس المدنية، والجامعات الحديثة كان أحد أبرز بناة مؤسسات الدولة ومديريها، وفي ذات الوقت كان ناقدا لها، كان دوره معاقا سلطويا ودينيا ومجتمعيا! كان دور المثقف المصري نبويا في رسالته الحداثية والنقدية، وكان ولا يزال يناور مع سلطات الدين والأعراف والسياسة والقيم الاجتماعية المتخلفة. وقع المثقف تاريخيا ولا يزال بين سندان السلطة ـ  بعد 1952 ـ  ومطرقة المجتمع المتخلف تخلفا تاريخيا مركبا. كان ولا يزال مهمشا، ومعرضا للاعتقالات والسجون والحصار، ومع ذلك ظل عصيا إلا من والى وداهن. وبعض من استمروا كانت قدراتهم على المناورة ذكية”.

ويشير عبدالفتاح إلى أنه “بعد يناير 2011 تراجع دور المثقف في ظل سطوة السلفية والفكر الديني المتطرف، ومطرقة السلطات، وصعد بديلا عنه الداعية السلفي، والناشط الحقوقي الممول خارجيا من دول ومنظمات دولية حقوقية، وخاصة داعيات حقوق المرأة!. في عصر الجموع الرقمية الغفيرة توارى الدور لصالح هذه الجموع، وثقافتها التافهة، وظل بعضهم يحاول، لكن تحولات الرقمنة، أدت إلى نهاية الصحافة الورقية وهيمنة السلطات الغاشمة عليها، وقمع الحريات العامة، لاسيما حرية البحث والتعبير والنشر”.

ويتابع “في فرنسا منذ عقود الخطاب السائد عن نهاية المثقف لصالح العنصر المتخصص. في بلادنا لا يزال هناك قلة تقاوم، وتنتقد القيم والأفكار النقلية وسلطات الدين والأخلاق والسياسة المسيطرة. لا يزال هناك هامش محدود، ومحاصر من خلال المناورة وما سبق أن أطلقنا عليه نظرية تهريب المباني، أيام السادات، لكن قلة محدودة جدا من يحاولونها وقادرون عليها. ناهيك عن خطاب المنشورات والتغريدات الرقمية الوجيزة الصادمة، لكنها قلة قليلة جدا. أعتقد أن دور المثقف قد انتهى حتى في مهده الأوروبي، ولأن أمريكا لم تعرف هذا الدور، وبريطانيا… إلخ. وساهمت الرقمنة والأناسة الروبوتية، ووسائل التواصل الاجتماعي، في كتابة نهايتنا وموتنا من أسف وأسى. فالوظائف والأدوار رهينة التحولات التقنية والاجتماعية والاقتصادية”.

ويرى الشاعر سمير درويش أن “البطش الذي يمارسه نظام الحكم الحالي في مصر غير مسبوق، حتى في أعتى فترات القمع في العصر الحديث، فيكفي أن يكتب شخص ما “تويتة” على موقع تويتر، أو “بوست” على صفحته في فيسبوك، ليجد نفسه مسجونًا دون أن يعرف أحد عنه شيئًا، ثم يكتشف ذووه بعد مدة، قد تكون أسبوعًا أو شهرًا أو أكثر، أنه محبوس احتياطيًّا على ذمة قضية هلامية مثل تعكير المناخ العام، والأفظع والأكثر بطشًا أنه يظل لمدة لا يعلمها في السجن خارج القانون والدستور والأعراف والأخلاق”.

ويضيف درويش “يستند هذا النظام ـ فيما يفعله ـ إلى المؤازرة الكبيرة التي كان يحظى بها في بداية حكمه (2013 /  2014) والتفويض، ومسألة مواجهة ‘الجماعة الإرهابية‘ و‘الجماعات التكفيرية‘، باعتبار أن مواجهتها تستلزم تكميم كل الأفواه والضرب في كل الاتجاهات، فلم تقتصر هذه الإجراءات على تيار الإسلام السياسي فقط، بل امتدت إلى القوى المدنية، وعليك أن تنظر إلى مصير أحمد دومة وعلاء عبدالفتاح وزياد العليمي ومصطفى النجار وأيمن هدهود.. وغيرهم كثير، واضطرار المئات إلى الخروج من مصر، مثل وائل غنيم وآخرين، ليس آخرهم أحمد طنطاوي”.

ويؤكد أن المتابع يعرف أن المثقف المصري على رأس الذين استهدفهم هذا النظام لإسكات أصواتهم، فمنذ البداية تم توجيه الإعلام للهجوم على من أسموهم “النخبة”، وتحميلهم مغبة كل الشرور التي حدثت في مصر، من أول زيادة لمعدلات الفقر، إلى الفشل في ملفات كثيرة: سياسية واقتصادية واجتماعية ودبلوماسية.

ويشير “كما تمت شيطنة ثورة 25 يناير 2011، وهي أشرف عمل حدث في مصر في العصر الحديث، وتحميل المثقفين والنشطاء مسؤولية كل إخفاقاتها التي ترتبت على الإدارة السيئة لما بعد الثورة، من فبراير 2011 حتى الآن. كل هذا جعل المثقف مستهدفًا من المجتمع أيضًا، بخلاف استهدافه من قبل الأذرع الأمنية للنظام، فيكفي أن تكتب رأيك بحياد كي تكون في مرمى نيران الناس العاديين الذين تدافع عنهم بالأساس، هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم الآن في مواجهة دولة فاشلة، اضطرت إلى أن تذهب إلى قطر كي تحصل منها على ما يساعدها على الاستمرار لعدة أشهر أخرى، بعد سنوات من الهجوم الإعلامي عليها وعلى أميرها”.

طواحين هواء

القاص

يؤكد القاص والروائي حاتم رضوان أن “ليس كل من يمتلك العلم والمعرفة يمكن أن نطلق عليه مثقفا، المفروض أن يكون المثقف فاعلا في الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأن يكون الجسر الواصل بين السلطة والشعب، وأن يتمتع برؤية تنويرية واضحة تجاه قضايا ومشكلات المجتمع، لكن البساط تم سحبه عمدا في عالمنا العربي من أقدام المثقفين الحقيقيين وسدت نوافذ التعبير عن آرائهم ورؤاهم لصالح وجوه ثابتة لا تتغير، معروفة بانتمائها إلى السلطة تتصدر المشهد في كل مكان، سواء صحافة أو قنوات تلفزيونية تلك الفئة التي يمكن أن نطلق عليها فئة المثقفين الزائفين”.

ويتابع “مُنع كل من له رأي من الكتابة أو الظهور في البرامج التلفزيونية، ولم يعد متاحا أمامهم غير صفحات التواصل الإجتماعي تويتر وفيسبوك وغيرها للتعبير عما يرونه، ولكنهم أيضا يلاحقون بالجيوش الإلكترونية وبدوا وكأنهم يحاربون طواحين الهواء مما حدا ببعضهم إما إلى التفاهم مع السلطة ومجاراتها ليجد لنفسه مكانا أو دفع ببعضهم إلى اليأس وإيثار السلامة تاركين الأمانة المنوطة بهم لينسحبوا في هدوء، وينعزلوا على أنفسهم ليغرق المبدعون منهم إما في الذاتية أو الرمزية منفصلين عن العامة”.

ويرى الباحث والكاتب المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية حسام حداد أنه لا بد من الاعتراف بأنه حدث تغير كبير في طبيعة المثقف ناتج عن خلل مفاهيمي لدينا، فالكثير ممن نطلق عليهم مثقفين لا يعلمون أو لا يقومون بدورهم الحقيقي في المجتمع، فتحولوا هم أنفسهم إلى عبء على الحياة الثقافية في مصر، فلم يعد مثلا هناك ما أطلق عليه غرامشي المثقف العضوي الذي ينتمي إلى طبقته ويمنحها وعيًا بمهامها، ويصوغ تصوراتها النظرية عن العالم، ويدافع عن مصالحها، ويقوم بالوظائف التنظيمية، والأداتية لضمان تقسيم العمل الاجتماعي داخل الطبقة ومن ثم استمرارها.

ويتابع “هذا المثقف انسحب جزئيا من المشهد مع بداية عصر الانفتاح السياسي في سبعينات القرن الماضي، وبعضهم تم تدجينه في أحزاب سياسية إلى أن قامت ثورة 25 يناير وكشفت الكثير من الأمراض والأزمات داخل المجتمع المصري ومن بينها أزمة المثقف، إلا أن سيطرة جماعات الإسلام السياسي على المشهد وفي القلب منها جماعة الإخوان أحدثت حالة من حالات الاستنفار داخل الجماعة الثقافية وتجلى هذا في اعتصام وزارة الثقافة الذي كان بذرة من بذور الثورة على الجماعة نتيجة خوف المثقفين على المكتسبات المدنية التي حصلوا عليها والمجتمع مع بدايات القرن التاسع عشر وحتى الآن”.

ويضيف حداد “كان نتيجة ذلك أن تحولت الجماعة الثقافية إلى مواجهة تيار التأسلم السياسي وركزت في هذا المجال حتى 30 يونيو 2013 وما بعدها لتأسيس ما يعرف بالدولة المدنية، دون الاهتمام بباقي القضايا المهمة التي تشغل المجتمع المصري وتؤثر فيه سلبا وايجابا. وبالتالي تمحور دور المثقف حول قضية واحدة ‘التأسلم السياسي‘ نتيجة الثنائية التي روج لها الإعلام والذباب الإلكتروني (الدولة / الإخوان)، فلو انتقد أحد المثقفين أحد المواقف الخاطئة للحكومة يتهم فورا بأنه تابع للإخوان والعكس ما تقوم به خلايا التنظيم الدولي للإخوان فأي نقد لتصرفاتها أو مواقفها يتهم صاحب هذا النقد بالدولجية. لكن هذا لا يمنع من وجود عدد من الأصوات مستمر في الحفاظ على دوره كمثقف عضوي حسب تعبير غرامشي إلا أن المواقع الصحافية والإعلامية تخشى ظهوره على الساحة دون إبداء أسباب لهذا الخوف أو المنع”.

ويعتقد أن “المثقف هو المسؤول الأول عن حالة التلاشي التي يعاني منها، ولا أستطيع إرجاع هذه الحالة أو كما يقال إن المثقف الآن تم سلخه من أدواره، ففي كل الدول وكل العصور دائما ما كان المثقف على يسار السلطة وناقدا لها ويعاني أحيانا كثيرة من تسلطها، لكنه دائما ما كان على قدر المسؤولية الاجتماعية كطليعة لطبقته يدافع عنها وعن مصالحها، إلا أنه ربما الأزمات الاقتصادية المتتالية ألقت بشباكها على رأس المثقف فلم يعد ينشغل بقضايا مجتمعه نتيجة غرقه الكامل في مشكلاته المعيشية وتوفير سبل الحياة لأسرته، حيث يعيش العالم من بداية أزمة كورونا وحتى الآن أزمة اقتصادية طاحنة، تجعل الجميع منشغلا بتوفير قوت يومه”.

12