"خديجة".. أمّ تلقي بوحيدها في النيل انتقاما من زوجها

الروائي القصير يسلّط الضوء على المشكلات النفسية للمرأة المصرية.
الثلاثاء 2021/11/16
كم من خديجة يلزمنا كي نلتفت إلى واقعنا المأزوم

يدخل مخرجون عرب من فئة الشباب، وخاصة حديثي التخرّج من المعاهد السينمائية أو أولئك الذين لا يملكون موارد إنتاجية كبرى أو خبرة واسعة في عالم السينما، الإخراج السينمائي من بوابة الأفلام القصيرة روائية كانت أم وثائقية، ليسردوا وقائع حقيقية قد تكون صادمة في الغالب. ومن بين هؤلاء يحضر المخرج المصري مراد مصطفى عبر فيلم “خديجة” الذي شارك به في مهرجان أيام قرطاج السينمائية الأخير.

تونس - أثارت حادثتان غريبتان متشابهتان أقدمت خلالهما سيدتان الأولى مصرية والثانية عراقية على رمي طفليهما في النهر ضجة في الأوساط الإعلامية بمصر والعراق خلال العام 2019، حتى أن الواقعة المصرية كانت دافعا لإنتاج فيلم روائي قصير يتناول الجانب النفسي الذي قد يدفع بأمّ شابة للتضحية بفلذة كبها.

وفي العام 2019، وبعد ساعات قليلة من طلاقها حملت سيدة مصرية ثلاثينية طفلها الذي لم يتجاوز الثلاث سنوات، وألقت به في نهر النيل بالقرب من منزل أسرتها في محافظة بني سويف. لكن القدر لم يشأ له الموت.

قصة حقيقية

مراد مصطفى: لا أحاول في الفيلم تقديم مواعظ، بل أكتفي بالرصد والتساؤل

“مللت حياتي وتعبت من الدنيا وما فيها، ففكّرت بالانتقام من والده لأنه طلقني”، هكذا كانت اعترافات الأم في محضر الشرطة المصرية، في حين اعتبرت عائلتها أن ابنتها تعاني من مشكلات نفسية أفقدتها القدرة على الاتزان العقلي ودفعتها إلى رمي ابنها في نهر النيل. ورغم ذلك برّرت الأم فعلتها بتعرّضها لضغوط نفسية من طليقها ووالدتها.

ويطرح فيلم “خديجة” للمخرج المصري مراد مصطفى هذه القضية من زاوية سينمائية مقتضبة، بكادرات تصوير ولقطات تراوحت بين الواسعة والقريبة، وحوار مختزل جعل الفيلم أقرب إلى السينما الصامتة، علّه يسلط الضوء، عبر أداء الممثلين وقدراتهم على تطويع تقاسيم الوجه للتعبير عن المشاعر والأفكار، وعلى ما لم تقله “خديجة” حول دوافعها للتضحية بابنها.

والمخرج مراد مصطفى له ثلاثة أفلام روائية قصيرة؛ أولها “حنة ورد” وثانيها “ما لا نعرفه عن مريم”، وسبق أن شارك بفيلمه الأخير “خديجة” في الدورة الخامسة لمهرجان الجونة السينمائي، قبل أن يشارك به في الدورة الثانية والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية ضمن مسابقة الأفلام الروائية القصيرة.

واختار مصطفى أن يخصّص أعماله السينمائية للحديث عن قضايا نسوية فكانت بطلات أفلامه الثلاثة أمهات بأعمار وجنسيات مختلفة، يمثّلن نماذج روائية عن ضحايا العنف المجتمعي، كل واحدة حسب حكايتها، وهو يقول في تصريحات صحافية متواترة أنه لا يُحاول تقديم رسالة معيّنة ويكتفي فقط بالرصد والحكي والتساؤل.

وتدور أحداث الفيلم حول ‎”خديجة” (الممثلة ملك طارق) وهي أم شابة في الثامنة عشرة من عمرها، تعيش بمفردها مع طفلها حديث الولادة، بعد أن غادر زوجها للعمل في مدينة أخرى وصار غير قادر على زيارتهما لظروفه المادية الحرجة.

تبدو خديجة طيلة الفيلم، امرأة حزينة، مرهقة، وشديدة الصمت، فقط تقاسيم وجهها هي التي تنطق بأوجاعها النفسية وبالحزن الجاثم على صدرها، تراقبها عدسة الكاميرا حين تلتقي بصديقتها أو تركض خلف الحافلة والتاكسي الجماعي، هي نفسها، صامتة بملامح حزينة تائهة، إلى أن تقرّر في أحد الأيام وهي بصدد التجوّل في شوارع القاهرة الصاخبة إلقاء ابنها في نهر النيل، ثم تتّجه لزيارة والدتها، تقابلها بملابس جميلة اقتنتها بحب للطفل الصغير، تكلمها فلا ترد، تستغل مساحة الحرية داخل “الحمام” كي تبكي وتعبّر عمّا تخفيه عن أهلها.

ينتهي الفيلم عند هذا الحدّ، بنهاية مفتوحة تترك للمشاهد حرية تخيّل ما يمكن أن يحصل في مثل هذه الحوادث، فلا شيء يمكن أن تقوله خديجة لتبرّر به ما حصل “سينمائيا” ولا شيء قد يبرّر الحادثة في الواقع.

تداعيات اقتصادية

صمت يخفي أوجاعا صارخة
صمت يخفي أوجاعا صارخة

يقول المخرج مراد مصطفى إنه تعمّد اختيار شخصيات لا تمتلك خبرة سابقة في مجال التمثيل لبطولة الفيلم، حتى يبدو حقيقيا إلى أقصى درجة.

كما أن الأفلام الروائية القصيرة تعدّ محكومة بزمن محدّد نسبيا مقارنة بالأفلام الطويلة، فالمخرج مطالب بإيصال فكرته وفق رؤية إخراجية وسيناريو لا يتجاوز النصف ساعة كأقصى تقدير، والتي قد تبدو أحيانا للمُشاهد، مساحة زمنية غير كافية لتبليغ الفكرة العامة للعمل السينمائي.

والفيلم من إنتاج فرنسي مشترك؛ قصة مراد مصطفى، سيناريو وحوار مراد مصطفى ومحمد ممدوح، وإنتاج شركة ريد ستار.

ومراد مصطفى مخرج مصري من مواليد القاهرة، عمل مساعد مخرج في العديد من الأفلام المستقلة، ثم تعاون كمخرج منفذ في الفيلم الروائي الطويل “سعاد” للمخرجة آيتن أمين، والذي تم اختياره رسميا في مهرجان كان السينمائي الدولي عام 2020 ومهرجان برلين 2021، كما رشّحته مصر لتمثيلها ضمن القائمة الأولية للأفلام الأجنبية المنافسة على الأوسكار هذا العام.

لا شيء يمكن أن تقوله خديجة لتبرّر به ما حصل سينمائيا، ولا شيء قد يبرّر حادثة إلقاء وحيدها في النهر واقعيا

وكتب مصطفى وأخرج فيلمين قصيرين هما “حنة ورد” و”ما لا نعرفه عن مريم”، عُرضا عالميّا في مهرجان “كليرمون فيران الدولي” والذي يعدّ أهم حدث سينمائي في العالم متخصّص في الأفلام القصيرة.

وتشهد المجتمعات العربية اليوم، ومن بينها المجتمع المصري، ارتفاعا ملحوظا في معدلات الجرائم المرتكبة، بما يشكّل أزمة حقيقية لا بدّ من تكاتف الجهود الحكومية والخاصة للبحث في أسبابها وإيجاد حلول لها.

وأصبحت مشاركة المرأة في الجريمة في المجتمعات العربية أمرا واقعيا وملموسا وفي تزايد مستمر وخطير، ممّا ينذر بأن المجتمعات باتت تواجه ظاهرة التغيّر الاجتماعي نحو الأسوأ، وأن تداعيات الأزمات الاقتصادية وغياب التأطير النفسي ترفع من منسوب الجريمة في الدول العربية وخاصة ذات الاقتصاد المحدود.

وتحتلّ مصر المركز الثالث عربيا والرابع والعشرين عالميا، بحسب تصنيف ناميبو لقياس معدلات الجرائم بين الدول.

وتنتشر جرائم القتل العائلي بكثرة في مصر، حيث تشكّل ربع معدل جرائم القتل في البلاد، بحسب دراسة ميدانية أجراها مركز البحوث الاجتماعية والجنائية في مصر، كما ارتفعت معدلات الجرائم الأسرية بشكل كبير بسبب جائحة كورونا، وبقاء عائل الأسرة في المنزل لفترات طويلة وقلة الدخل مقارنة بالمصاريف، وتحوّل الظروف الاقتصادية إلى الأسوأ بشكل كبير.

ويحذّر خبراء وأطباء نفسيون من أن هناك تساهلا في ارتكاب الجريمة لدى الكثيرين مؤخرا، وأصبح ارتكاب الجريمة بديلا سهلا للخروج من العلاقات المتعبة والتخلّص من المسؤوليات التي تثقل كاهل الإنسان حتى لو كان الثمن دفع العمر بأكمله جراء القتل العمد.

14