خبراء مصريون: إثيوبيا تسعى إلى خلق واقع جديد

القاهرة- لم تعد أزمة سد النهضة قضية حكومات تدور في أروقة الغرف المغلقة، بقدر ما أصبحت قضية نخبة ورأي عام وتثير قلقا ملموسا في مصر، وباتت تطرح أسئلة اشتكت دوما من التعتيم الرسمي بشأن المفاوضات.
وعندما أتيحت الفرصة لتداول الأزمة بمزيد من الحرية لتنوير الناس، أخذت مراكز التفكير في مصر تعقد ندوات ومؤتمرات لمناقشة القضية، وجاءت معظم نتائجها متسقة مع المواقف الرسمية الغاضبة من نظيرتها الإثيوبية.
عقد المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية بالقاهرة مؤتمرا، الثلاثاء، ضم نخبة اتجاهات سياسية مختلفة على صلة بالأزمة، ناقش أبعادها وتداعياتها ومسارات الحركة المستقبلية والبدائل المتاحة.
حملت الآراء النخبوية تنوعا في الطرح، لكنه جاء متناغما مع التعاطي الرسمي ومؤازرا له، والذي أكدت بعض التصريحات أن الأزمة مع إثيوبيا وصلت إلى طريق مسدود، فنيا وسياسيا، والمياه قضية الشعب المصري دون تفرقة بين ميول سياسية وأخرى، مؤيدة أو معارضة، ما يتطلب التكاتف وراء الجهود التي تبذلها مؤسسات الدولة في إطار من الثقة في خطواتها.
وقال هاني رسلان، الخبير في الشؤون الأفريقية بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، إن الأعوام الأخيرة شهدت رعاية دولية لإثيوبيا وزيادة في الاستثمارات نتج عنها تحقيق معدلات نمو مرتفعة، بينما يعاني معظم السكان عدم توافر الكهرباء أو الطاقة، وتكرّست فكرة لدى المواطنين أن سد النهضة مدخلا رئيسيا للتحديث والتنمية عبر استغلال الموارد المائية وإقامة مجموعة ضخمة من السدود لتوليد الطاقة وتصديرها، فالمياه هناك تشبه “الذهب الأبيض”.
كال الكثير من المتحدثين الاتهامات إلى إثيوبيا، وذهبوا إلى أنها تسعى إلى تغيير معادلة التوازن الهيدروبولتيكي والهيدرواستراتيجي في النظام الإقليمي المائي
واستنكر رسلان سياسات أديس أبابا التي استغلت الظرف السياسي الذي حدث في مصر (ثورة يناير 2011) وحوّلت السد إلى أمر واقع عبر الدخول في سلسلة طويلة من المفاوضات والمباحثات، كانت كسبا للوقت. وينسجم هذا الأمر مع أحد خطابات الرئيس عبدالفتاح السيسي التي أدلى بها مؤخرا وحمل فيها الثورة مسؤولية السد.
ومالت تصريحات رسمية مصرية إلى التلميح لوجود أغراض سياسية، وأن الأزمة أبعد من كونها فنية، وهو ما تسبّب في خروجها عن بعض السياقات السابقة.
ويرى أكاديميون أن قضية السدود على نهر النيل الأزرق في إثيوبيا سياسية بامتياز وتحمل مكوّنات إستراتيجية، ولها علاقة بما يجري في الداخل، لأن الحكومة الحالية جاءت بمشروع جديد يسمّى “الفيدرالية الإثنية”، يعني توزيع السلطة بين الإثنيات والقبائل المختلفة التي تبلغ نحو 83 مجموعة سكانية، وتحوّل السد إلى مدخل للنهضة والتحديث ونقطة تعبئة وحشد الشعوب والإثنيات المختلفة.
وأوضح محمد سالمان طايع، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن الأزمة تحمل تأثيرا كبيرا على الأمن القومي بشدة، وتؤثّر على كمية الإيراد المائي القادم إلى مصر، وتنجم عنها تداعيات سلبية على الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي، وتنخفض الحاصلات وترتفع أسعارها، وتشريد مليون أسرة مصرية، فضلا عن زيادة نسبة الملح في التربة وتقليل خصوبتها والتأثير على الأحياء المائية والسياحة النيلية.
ينسجم خطاب طايع في المؤتمر الذي عقده المركز المصري للدراسات الثلاثاء، مع مضمون الكلام الرسمي الذي يؤكد على أن قضية المياه “حياة أو موت” بالنسبة إلى مصر، وجرى ترديد العبارة على لسان عدد من المسؤولين مرّات عدّة، بجانب العزف على وتر “فرض الأمر الواقع” كسبيل لإجبار مصر على القبول بالسد.
وأشار طايع إلى أن إثيوبيا تسعى إلى خلق واقع جديد يكرّس لنظرية السيادة الإقليمية المطلقة من أجل تعظيم المصالح، بغض النظر عن مصالح الآخرين.
ولفت إلى أن الفترة المقبلة ستتسم بالانفرادية والأحادية وعدم التنسيق مع مصر أو الدول الأخرى في حوض النيل، إذ لا تعترف أديس أبابا بشرط الإخطار المسبق كأحد المبادئ المستقرة في القانون العام والقانون الدولي للأنهار خصوصا.
وكال الكثير من المتحدثين الاتهامات إلى إثيوبيا، وذهبوا إلى أنها تسعى إلى تغيير معادلة التوازن الهيدروبولتيكي والهيدرواستراتيجي في النظام الإقليمي المائي بما يجعلها المهيمن على منطقة حوض النيل.
واقترح طايع التعامل مع الأزمة وفقا لطريقين، الصراعي والتعاوني، قائلا “تفرض الواقعية في العلاقات الدولية العمل وفق المنحيين معا، ويمكن الاستناد إلى آليات للتعامل عبر التحرك سريعا لإنشاء مجلس أمن مائي في إطار مجلس الأمن القومي في مصر، ويراد به صنع السياسة المائية في الداخل والخارج وإقرارها”.
ونوه طايع إلى استخدام قدر من القوة (الردع) ثم المسار القانوني، سواء التحرك في مجلس الأمن الأفريقي أو محكمة العدل الدولية، وتفعيل القوى الناعمة ودبلوماسية المياه عبر تضافر الجهود المختلفة عبر الإعلام والدبلوماسية والأزهر والكنيسة ورجال الأعمال والدبلوماسية الشعبية.
وطالب الموقف المصري الرسمي بمزيد من الدراسات الفنية لمعرفة التداعيات، غير أن أديس أبابا لم تتجاوب مع ذلك، وصممت على مفهومها العلمي.
وتطرّق السفير مجدي عامر، مساعد وزير الخارجية الأسبق لدول حوض النيل، للحديث عن المسار السياسي التفاوضي الذي شارك به قائلا “واجهنا تشددا واضحا يتبعه نوع من الانفراج الوهمي، وشُكّلت لجنة دولية للحصول على وثيقة مكتوبة تبيّن التعامل الإثيوبي مع سد النهضة والنواقص، وأكدت أن الدراسات التي أجريت من قبل أديس أبابا غير كافية ولا ترقى لمستوى مشروع ضخم يؤثر على دول أخرى، وأوصت بإجراء دراسات إضافية وتغيير تصميم وأبعاد السد”.
كشفت اللجنة الدولية الفنية التي شُكّلت في 2012 والتي أصدرت تقريرا في مايو 2013 أن ثمة تحفظات واضحة لهذه اللجنة على مستوى أمان السد ومستوى ضمان التدفقات المائية لدول المصب، وهي التحفظات التي حاولت مصر الاعتماد عليها في اجتماعات اللجان الفنية ضمن أطر مختلفة.
وصبرت الحكومة المصرية على التفسيرات الإثيوبية، وراهنت على أن استمرار الحوار يمكن أن يؤدّي إلى نتيجة محدّدة، ورفضت الإعلان سابقا عن فشل المفاوضات، حتى اضطرت مؤخرا إلى الإقرار بذلك، وسواء كان هذا الموقف جاء للضغط على أديس أبابا وتحريض المجتمع الدولي التدخل، أو اعتراف بما وصلت إليه الأمور، فهو يعزز الكلام حول وجود أزمة ثقة بين الجانبين.
أكدت بعض التصريحات أن الأزمة مع إثيوبيا وصلت إلى طريق مسدود، فنيا وسياسيا، والمياه قضية الشعب المصري دون تفرقة بين ميول سياسية وأخرى، مؤيدة أو معارضة
وقالت أماني الطويل، مديرة البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، لـ”العرب”، إن السياسة المصرية اتجهت في التعامل مع أزمة سد النهضة إلى احتواء الموقف الإثيوبي، والرهان على فكرة احتمال أن يتم إنشاء أفق تعاوني بديلا عن أفق الصراع، مدفوعة ببعض التأثيرات السياسية التي حدثت.
وأضافت أن التحدي الأساسي هو طبيعة الموقف الإثيوبي الذي يفترض تغييره بأي وسيلة، ولم تستبعد الضغط على مصالحها في المحيطين الإقليمي أو الدولي أو النطاق التمويلي، وتلك أطر موازية لا بد من انتهاجها، لأن مصر طوال سنوات المباحثات التزمت إلى حد كبير بالهدوء والتعتيم على المستوى الرسمي في محاولة لتحقيق أهدافها في المباحثات حتى عانينا كخبراء في الحصول على معلومات.
وتحدث ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة المصرية للاستعلامات، أمام المؤتمر، واصفا إعلان مصر فشل المفاوضات، بأنه “كان من أنجح المواقف الرسمية ومثالا موفقا للغاية في كيفية إدارة الأزمات على مستوى الرأي العام، ولم يكن هناك خجل من إعلان الفشل في التوقيت المناسب.. ومن الضروري الاستمرار في هذا التقليد لقطع الطريق على أي اجتهادات إعلامية أو سياسية تضر بالموقف المصري”.
وتحاول القاهرة اتباع المنهج القانوني في تحركاتها مع إثيوبيا، وتسعى إلى تسويق رؤيتها عبر هذا الإطار، الذي ترى فيه أديس أبابا جانبا مغايرا يميل إلى صالحها.
وشدد محمد سامح عمرو، أستاذ ورئيس قسم القانون الدولي بكلية حقوق جامعة القاهرة على أهمية تطبيق القواعد والمبادئ التي استقرت، عن طريق العرف أو الاتفاقيات الدولية التي بدأت منذ عام 1902، مطالبا بالتوصل إلى اتفاق لملء وتشغيل السد و‘لا ستواجه البلاد مشكلة كبرى، لأن مياه النيل تمثل 98 في المئة من المصادر المائية للدولة، ولا بد أن يتضمّن الاتفاق آلية لفض المنازعات، كقواعد إلزامية أو استرشادية للأجيال القادمة.