خالد زكي يستعيد شموخ الحضارة الفرعونية في مجسمات صوفية

منحوتات من الأرض تسكنها الأحلام.
الثلاثاء 2021/11/09
تراكيب تعبّر عن الحاضر معنا بالغياب

تفيض أعمال الفنان المصري خالد زكي بمزيج من المشاعر النبيلة والأفكار العميقة والتقنية الفنية الدقيقة التي يستخدمها بحرفية عالية، فيزيد من إحساس المتلقي بتفرّد إبداعاته ووقار فن النحت وعراقته، ليعكس من خلال أعماله المستمدة من ملامح الحضارة الفرعونية وشموخ الشخصية المصرية منحى روحانيا صوفيا، يُربك الماثل أمام مجسّماته ويستفزّ فيه روح الإبحار في عالم سحريّ أساسه إزميل ومطرقة وخيال باذخ الجموح.

حين سنحت لي الفرصة بالوقوف أمام إحدى منحوتات المصري خالد زكي توقّف الزمن عندي، وفي الحقيقة لم أستطع إلى حدّ هذه اللّحظة إلّا الشعور بالرهبة من القوّة التي يحملها عمله الفنيّ النحتيّ.

تذكّرت حينها الشعور نفسه الذي تحدّث عنه نيكوس كازانتزاكيس في سيرته الفكرية “تقرير إلى غريكو” حين وصف مشاعره وهو يطأ جبل سيناء، وفهمت معنى أن تكون في حضرة “الجليل”. يقول كازانتزاكيس “لسنوات عديدة كان سيناء، الجبل الذي وطئه اللّه، يلمع في ذهني.. كان قلبي يتراقص حين وطئت قدمي على الرمل الخشن. أيمكن أن يكون هذا كلّه حلما؟.. فكّرت لنفسي: أيّة سعادة هنا..  وأيّة عزلة؟ وكم هو بعيد العالم المضطرب الصاخب؟”.

ثيمات مسكوت عنها

خالد زكي: أقدّم منحوتات مؤدّبة، في حالة استماع، أين تحضر الأنا ونفسي مع الإله
خالد زكي: أؤمن أن الساعة لا تتوقف، لذلك أنحت أجسادا أخلاقية ومؤدّبة

أعاد الكاتب صياغة القصص المقدّسة بطريقته السردية الخاصة، تحدّث عن الجانب الحيواني في الإنسان. تطرّق إلى مواضيع هامة في حياتنا كالجسد والعزلة والنور والسلام. يقابل الراوي شخصيته الأخرى ويكتشف روحه ورغباته وأصوله ليقرّر في الأخير خلاصه الفكريّ في كلّ ما هو إلهي.

خالد زكي هو الآخر يستحضر المقدس والأرضي والجليل والتصوّف في المواد التي يصقلها، يقرّ أنه يستدعي الماضي في صيغ شتى لأن التاريخ يصنع الحضارات، يقول “هناك تكسير منهجيّ لتاريخنا بحيث أجد نفسي مضطرّا لاستدعاء أصولي والحديث عن موقعي الآن واستباق ما يمكن وأين يمكن أن أكون في المستقبل. هذه العناصر الثلاثة مهمّة في تحديد تطوّر العمل الفني، إذ يجب على الفنان الوعي بأصوله وحاضره من أجل المرور إلى المستقبل”. حتى أنه لا يستطيع إبداع عمل فنيّ خارج أرض مصر، لأنّ الصور التي ينتجها هي وليدة الشارع والحياة المصرية بكلّ ماضيها وتاريخها القديم والحديث.

حدّثني زكي عن شغفه بنحت ورسم كائنات في حالة شجن وتفكير داخلي. ذلك الكائن الغيبيّ نفسه الذي ينعكس في كلّ إنسان عربي عايش الثورات والحروب. يقول “إننا نعيش إشكالية موحّدة تتمثّل في سؤال: من أين نأتي وإلى أين نذهب وما العمل؟”.

لذلك فهو بصدد تصوير الحالة التي يعيشها من أجل تخليد كلّ تلك الأسئلة في المستقبل. تحمل منحوتاته ابتسامة من كلّ ما يحدث داخل أوطاننا العربية. تتجه رؤوس كائناته غالبا إلى الأعلى حيث يسكن الربّ، لأن البشر ليسوا بحاجة إلى وسائط في علاقتهم بالإله. يرى أن السياسة برغماتية وهي عملية لا يحبّذها الإله، لأن الله متسامح.

يقول زكي “لا أعاند الزمن، أؤمن أن الساعة لا تتوقّف لذلك لا أدخل في صراعات عقيمة وجانبية. أنحت أجسادا أخلاقية و’مؤدّبة’، ذلك الأدب نفسه الذي أصبحت شعوبنا تفتقده وتحتاجه. مفهوم الحرية مغلوط فالحرية المطلقة هي قمة التعسف والدكتاتورية والأنانية والغباء. الشعوب العربية ليست غبية بدليل السخرية من كونها غبية، وذلك نوع من الثقة. نحن شعوب متمرّدة. نحن شعوب جميلة ولكن نفتقد إلى الأدب. أقدّم منحوتات مؤدّبة، في حالة استماع، أين تحضر الأنا ونفسي مع الإله”.

رؤوس تتّجه إلى الأعلى حيث يسكن الربّ
رؤوس تتّجه إلى الأعلى حيث يسكن الربّ

يبحث النحّات المصري في دائرة الزمن والومضات التي تؤبّد فكرة الصراع الأبديّ من أجل الاستئثار بالقوّة والسلطة. يفكّك الحجارة ويُعيد تركيبها من جديد ليس بنيّة التقطيع، ولكن بغاية التجميع “للنهوض من جديد”.يقول زكي “لا أعاند الزمن، أؤمن أن الساعة لا تتوقّف لذلك لا أدخل في صراعات عقيمة وجانبية. أنحت أجسادا أخلاقية و’مؤدّبة’، ذلك الأدب نفسه الذي أصبحت شعوبنا تفتقده وتحتاجه. مفهوم الحرية مغلوط فالحرية المطلقة هي قمة التعسف والدكتاتورية والأنانية والغباء. الشعوب العربية ليست غبية بدليل السخرية من كونها غبية، وذلك نوع من الثقة. نحن شعوب متمرّدة. نحن شعوب جميلة ولكن نفتقد إلى الأدب. أقدّم منحوتات مؤدّبة، في حالة استماع، أين تحضر الأنا ونفسي مع الإله”.

يصرّح زكي أنّه ضد مظاهر المعاصرة الزائفة والتقليد السطحي وغير المنهجي. يعي جيّدا ما يحصل في أقطارنا العربية من محاولة خارجيّة للتدمير المُمنهج لأصولنا، فيقول “أعتبر أن كلّ ما يحدث مخيف ومحزن، بدليل ما يحدث في سوريا والعراق. خوفي كبير أن ننهض يوما ولا نجد ما نتشبّث به أو شيئا من ماضينا”.

هي إحالة على الجانب المظلم والفارغ فينا، إلى ثيمات مسكوت عنها كالجنون والجدب والغرائزيّ فينا. لقد اختار تراكيب في الغالب عمودية أو ممدّدة للتعبير عن المسكون فينا غيبيّا والحاضر معنا بالغياب. ينفتح الجسد على طواطم وتابوهات مذهلة، بما في ذلك من أبعاد نفسية وشعائرية تجعلنا ندرك طابعه الصداميّ، ذلك الطابع ذاته الذي جعل النحّات يستدعي الجسد النيتشويّ “الصاعق” في شكل أنثى متضرّعة أو ذكر ملتحف أو جسد تابوتيّ ممدّد.

حكايات رمزية

حكايات رمزية تتحدّث عن البدايات والولادة واللّعنة
حكايات رمزية تتحدّث عن البدايات والولادة واللّعنة

يمقت النحّات المصري زكي كلّ أشكال الضوضاء فهو يحمّل أعماله القلق الذي يعتري العالم. وفي ذلك يقول “يجب التزهّد لملاقاة النفس، يجب ترك الصخب والضوضاء، لأننا في وجود الآخرين نحن أشبه بالببغاء الذي يكرّر الكلمات دون وعي”.

يتطلّب التوازن الاستمرار في مخاطبة الذات، لذلك اختار أن يتفرّغ للفن والنحت ليجد السلام في نفسه. وهو يعتبر أنّ الدخول بالجسد في عتمة الإلهيّ وتسميته مجازا بمحفّزات الموت والاندثار في الغيبيّ هو في حدّ ذاته ردّ اعتبار لشرف وأصالة الإلهي فينا، لأنّ الاختلاف هنا هو الذي يستعيد ثورية التزهّد في وجه النمطيات الخانقة، تلك الحدود ذاتها التي رفضها فنانون عبر التاريخ لإقرار صور “مغايرة” وتقديم جسد تصويريّ يعبّر عن جنون مساراتهم تماما كما يفعل الحيوان خارج الحظيرة.

يعيب زكي على هذا الزمن أنّه أصمّ لذلك ينحت الصمت ويحفر السكون ليدعو إلى التعقّل ومتعة الاستماع. تتقاطع رؤاه مع كلّ ما يقرأه ليوسف إدريس ومحمود السعدني وجمال حمدان وأنطونيو تشيخوف الذي يقول “أنا لست ليبراليا ولا محافظا، لست وسطيا، ولا راهبا ولا حريصا على الاختلاف. أريد أن أكون فنانا حرا ولا شيء آخر، وأندم على أن الله لم يعطني القوة لكي أكون كذلك”.

تُخاطب منحوتات هذا المصريّ الصّلب معاني القلق الواقعي وتستدعي ضمن ذلك حكايات من الأساطير الفرعونية القديمة، حكايات رمزية تتحدّث عن البدايات والولادة واللّعنة، أين يتجلى هاجس الموت الذي أرّق البشرية.

تبدو منحوتاته في حالات ترتيل وصلاة وإحراج ربما، وإذا يجتمع مفهوما، الأسطورة والموت معا، فإنّنا إزاء صورة “قهر الموت بالموت في كلّ شيء”. فبين الغيبيّ والإنسانيّ تتجلّى معاني الفناء والحياة، المتعة والألم، السقم والعافية ومعاني الواقعيّ والخياليّ.

النحّات المصري يبحث في دائرة الزمن والومضات التي تؤبّد فكرة الصراع من أجل الاستئثار بالقوّة والسلطة

ورغم أنّ زكي ينفي عن أعماله كلّ الرسائل المشحونة سياسيا، إلاّ أن البرونز المصقول في شكل قوالب وصناديق مركّبة يفنّد كلامه. إذ تذكّرنا كائناته المتشابهة بكلّ ما يفرّقنا من اختلافات: العرق والجنس والدين والتعليم.

وهو في ذلك يستحضر قول الأميركي جورج كارلين “هكذا يريدون لنا.. سيركّزون على أي شيء يجعلكم تتفرّقون.. أي شيء يمكنهم أن يفعلوه ليبقونا متصادمين”. حتى أنّنا نسينا كيف تكون القوّة الحقيقيّة، أين تتحالف الطبقات والأفكار والمجموعات.

في الحقيقة أجد صعوبة في التوقّف عن الكتابة في ما يتعلّق بتجربة زكي، أشعر أنّني لم أتحدّث بالقدر الكافي حول علاقة النحت بأسئلة مهمّة ومصيريّة أراد النحّات المصري تضمينها في العمل، إذ تعبث منحوتاته بالظواهر المسلّمة من الحياة، لأنّها تخاطب كلّ أشكال الشغب والسّلم فيها.

تستدعي الحجارة الأساطير، ولكنّها تحافظ على حركة التبدّل الواقعيّة، فهو يؤمن بدوائر الترابط بين الماضي والحاضر. يتنقّل النحت عنده بين مفاهيم جوهريّة كالتصوّف والرقص والنغم والرهبة والغيبيّ والدنيويّ والحجميّ.

لا يعترف الفنان بحواجز الطبيعة لأنّه يخاطب ما وراءها في أعماق العزلة وفي قلب الضوضاء. تتجلّى منحوتاته في صور تشخيصيّة تتماهى مع الجليل والبهيّ، ولكنّها تحمل في الوقت ذاته كلّ معاني الشعرية والصوفية التي ينظّر ويشتغل بها الفن التجريديّ.

يقدّم النحّات في السنوات الأخيرة منحوتاته المركّبة والمصقولة جيدا ليلعب بمسلّمات النحت ذاته وكأنّه يُساير الحلقات الزمنية المسترسلة والمتبدّلة، لذلك تكون المنحوتة مفتوحة على الدوام للتركيب وإعادة الولادة في طبقات، وفي ذلك يقول “أنا أشتغل مع نفسي على نفسي.. الفن ذاتيّ لذلك سأحاول أن أكون صادقا في عملي، وأعتقد أن المشاعر التي أبثّها في النحت والرسم ستصل إلى العالم”.

Thumbnail
Thumbnail
15