معرض "ثقافة - تضامن" في تونس.. صور ثابتة لحجر صحي متحول

ترتهن ممارسة الفن، في الكثير من الأحيان، إلى ظروف خاصة جدّا بالفنّان. تحتّم على بعض الفنانين إنجاز أعمالهم وهم على فراش الموت أو إثر حادث ألمَّ بأجسادهم جعلهم عاجزين عن مواصلة فنّهم بالطريقة التي يبتغون. لقد كتب الفرنسي جون دومينيك بوبي روايته "بذلة الغوص والفراشة" برمش عينه اليسرى، في حين مارست المكسيكيّة فريدا كاهلو الرسم وهي ممدّدة على فراش لسنوات عديدة لتعبّر في رسوماتها عن الفقدان والعجز والجمال ولتمنح حياتها معنى جديدا قائما على مواصلة الإبداع.
يضطرّ الفنانون غالبا إلى التأقلم مع واقعهم وتجاوز مصاعبهم وحيدين في الفنّ، أمثال الرسام كيث هارينغ وفرانشيسكو غويا وتولوز لوتريك، ولكن حين تكون المحنة جماعيّة فلا بد أن تكون محاولة الخروج منها في مجموعات. تحصد الفترات التاريخيّة الصعبة الأرواح ولكنّها تصدّر الثقافات وتحفّز الإبداع تماما مثلما حدث أثناء وباء الطاعون والكوليرا والحمى الإسبانية. لقد وصلتنا معاناة شعوب بأكملها من خلال الروايات واليوميات والرسم والمسرح. وهذا بالذات ما يجعل من عمل المؤسّسات والمنظمات المهتمة بالفنون عملا استثنائيا، خاصة وأنها تحرص على تأطير المبدعين وتحفيزهم وتبليغ أصواتهم إلى العامّة، والأهم من كلّ ذلك أنّها تساهم في حفظ التاريخ والتوثيق لمراحل مهمّة من حياة الفنّانين.
منظمة كمال لزعر، التضامن وسط العزلة هروبا إلى الحياة
تُعتبر منظمة كمال لزعر التونسيّة KLF من أهمّ المؤسّسات الثقافيّة الدوليّة التي تعتني منذ سنوات بتشجيع المبدعين في الفنّ الحديث والمعاصر. حرصت منذ تأسيسها 2005 على إنجاز مشاريع فنيّة مهمّة واقتناء أعمال فنيّة عالميّة والترويج للفنّ والثقافة التونسيّين. أرست المؤسّسة تقاليد ثقافيّة ترتكز على التنوّع، فنجد معارض الفنون البصريّة والتشكيليّة والعروض الموسيقيّة والمسرحيّة والإقامات الفنيّة المفتوحة التي تحتضنها المحطة الفنيّة البحر الأزرق B7L9. يشرف على المحطة أشخاص محترفون في تنظيم المعارض والتظاهرات واقتناء الأعمال الفنيّة الأصلية وعلى رأسهم كمال ولينا لزعر.
أشرفت المنظّمة في فترة الحجر الصحّي خلال الربيع المنقضي على مشروع فنيّ كبير تحت عنوان "ثقافة - تضامن". دعت مديرة المشروع بياتريس دونويار الفنانين إلى تقديم إنتاجهم الفنيّ والتعبير عن وجهات نظرهم إزاء جائحة كوفيد - 19، التي ضربت وحوّلت العالم بأسره. خُصصت ميزانيّة لتمويل المشاريع التي وقع اختيار عرضها لاحقا بالمحطة الفنيّة B7L9 التابعة للمؤسّسة.
آمنت منظمة كمال لزعر بالإنتاج الثقافي لفنّانين في معتزلاتهم، وقدّمت مشروعا جامعا لفنانين اشتغلوا على ذواتهم وعلى الطبيعة البشريّة. شارك عدد كبير من الفنانين بمشاريع ورؤى معاصرة مختلفة مثل وديع المهيري وإلياس المسعودي وصوفيا قرفال وفريال الزواري وأسماء بن عيسى وقناوي السباعي.
يذكّرنا فضاء عرض مشروع "ثقافة - تضامن" بتلك القصص والحكايات النثريّة التي رواها المؤلّف الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو في كتابه "لديكاميرون" أو ما يلقّب بالكوميديا البشريّة، حيث التجأت مجموعة من الشباب إلى العزلة هربا من الموت الأسود الذي حلّ بمدينتها.
تتراوح الحكايات بين الأحداث الجنسيّة والمأساويّة والطرائف الهزليّة، كما تقدّم القصص عبرا من الحياة وصورا توثيقيّة لليومي والهامشي والحميمي. اعتمدت سينوغرافيا العرض على مبدأ الغرف الصغيرة المنفصلة للإحالة إلى سمة المجتمعات المعاصرة المعزولة. عُرضت ثمانية عشر مشروعا في أركان شبيهة بالبيوت، هي متقاربة في المكان ولكنّها منفصلة في الهويّة والذات والتصّور، الأمر الذي جعل الوسائط والتقنيات تتراوح بين الفوتوغرافيا والتصوير والنحت والاستعادة والفيديو.
يعرض بعض الفنّانين تجاربهم الحميمة على الملأ مصدّرين هموم العزلة ومخاوف العدوى وقيود العجز. أمّا البعض الآخر فيحتفي بالحياة الماضية ليطرح مسألة محوريّة في حيواتنا هي حتميّة المقاومة والتشبّث بالاستمرار. فـ"العزلة هي انتقاء نوع الألم، والتدرّب على تصريف أفعال القلب بحريّة العصامي.. أو ما يشبه خُلُوُّك من خارجك وهبوطك الاضطراري في نفسك بلا مظلّة نجاة". هكذا كان يصف محمود درويش عزلة الشعر والكتابة التي كان يمارسها مع نفسه.
مشروع "ثقافة - تضامن" وذكريات كوفيد - 19 المعلّقة
يقول الكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي "لا يستيقظ في العزلة إلاّ ما هو كامن فينا أصلا". لقد تضاعفت خلال الحجر قصص العنف والطلاق وتعرّت حقائق اجتماعية كانت متوارية خلف الأقنعة ووراء المسميّات الزائفة. تماما مثل الحكايات المصوّرة التي قدّمها بسّام بن براهيم خلال معرض "ثقافة - تضامن" حيث تُطرح فكرة العنف والعنصريّة المسلّطين على فئات محدّدة من المجتمع التونسي. يتطرق الفنّان إلى موضوعات وقضايا محظورة مثل المثليّة الجنسيّة والمتحوّلين والتعدّدية والكراهيّة الجنسانيّة.
أما صوفيا قرفال وحلمي بوترعة فقد قدّما مشروعا بعنوان "صورة عائليّة" في شكل صناديق ذكريات معلّقة وفيديو مركّب لأحداث عايشاها أثناء فترة الحجر. يستدعي الزّوجان أصواتا من الذاكرة ومن التاريخ البشري مثل صوت الأبواب والأقفال ورنين الهاتف ونداء طفل تائه. يصوّران فكرة تقلّب الزمن والاسترسال والاندثار، أو كما يقول بوكاتشيو "الحياة تنفلت هاربة، ولا تنتظر ساعة واحدة".
يقول الفنانان "إن الأزمنة تعيد ذاتها وإنّ كلّ شيء سيمرّ باستثناء ما يمكن للفنّ إنتاجه، لأنّ الفنّ وحده قادر على الاحتفاء بحريّة التعبير وجرأة الطرح وصدق الأفكار في مجابهة تشنّج المغاير فينا".
في حين يختار البعض السقوط في عزلتهم، تهرب أسماء بن عيسى من العزلة إلى النظر في نسيج الطبيعة. تقرّ الفنانة بأن الرجوع إلى المواد الخام والألوان الطبيعيّة هو الذي سيجعل الحياة أكثر احتمالا، إذ تخلق عوالم خياليّة في مواجهة الواقع المرير الذي تعيشه الإنسانية متبعة الاعتقاد الراسخ للبعض بأنّ الخلاص يكمن في الطبيعة.
ترصف وتركّب أسماء مساحات منسوجاتها الملوّنة، لتصنع مشهدا غرائبيّا متكرّرا علّها تقدّم البديل عن كل هذا الشرّ المحيط بنا، ذلك الشرّ نفسه الذي حوّله البعض الآخر من العارضين إلى صور ومشاهد تهزأ من الواقع وتهجّن المجتمع مثل مشروع "صابونة" للعروسي تبانا وزينب بن حمودة، أو شخصيّة "برسونا" من ابتداع زينب الهنشيري حيث تتحوّل صورة الجسد إلى مجرّد ظلّ دون روح ويتحوّل البشر إلى كائنات غريبة ومقرفة.
يعرض مشروع "ثقافة - تضامن" أعمالا تؤرّخ لما يعيشه الإنسان خلال الحجر الصحي وتقوقعه على نفسه، مسافة أجبرته الأقدار على أخذها لإعادة النظر في وجوده وعلاقته بالعالم وتوجيه بصره لأشياء مهمّة أهملها بسبب مشاغل الحياة.