خالد حجار يبوح بأسراره مستكشفا العمق الإنساني

وجهة إبداعية جمالية تبتعد عن النمطية السائدة.
الاثنين 2024/10/21
فنان يستنهض الواقع ويفعّله

خالد حجار فنان سوري من الطراز الرفيع، تتقمص شخوصه أعماقنا الإنسانية لتبوح بأسراره وأسرارنا جميعا، يصورها بهيئات وملامح متشابهة تحافظ على العيون الغائرة والتائهة ضمن رحلة بحثه المستمرة عن شخصية فنية تميزه وتكون قادرة على البوح بأفكاره.

الوقوف في حرم التشكيلي خالد حجار (صلخد، السويداء 1973) ليس سهلا ولا بسيطا بل يحتاج إلى أحداق بوسع السماء، مفتوحة إلى آخر مداها، يحتاج إلى قلب ينبض بكل قوته، فالصدمات قد تأتي على نحو مفاجئ وبدرجات عالية غير متوقعة.

كل ما في هذا الحرم يدعوك إلى أخذ الحيطة والحذر، من قسوة الشكل فيه إلى حيونة الإنسان وتشوهه، فلا معيار هنا للكياسة والتهذيب بل المعيار لكل ما هو فظ معزز لعالمنا ولعوالم الحياة فينا وهي تنهش بأيدينا، وأشكال السجال تستكشف صلواتنا لآلهة تتعالى تشاؤما وتدفع التاريخ قُدُما باتجاه أي مكان لا تنقضي اللحظات فيه، قد تمر لتلفح الوقائع ورصيدها، وقد توضع في سياق من المعنى أوسع، لكنها حتما تميز خصائصها الفريدة التي تترتب عليها جانب من الممارسة التي تم تصورها على نحو أداتي، وهو حكم على كل شكل من أشكالها الواعية واللاواعية، بوصفها قائمة تستعيد الصوت المفقود، الصوت الحقيقي الأصيل.

احتفاء بالحياة عبر الألوان والشخوص
احتفاء بالحياة عبر الألوان والشخوص

ولا شك أن الوقوف في حرم خالد حجار ومدينته هو بحد ذاته جرأة ومحاربة القلق والخوف بكل أوزانه وموازينه، ومن الإنصاف القول إنه حرم يدفعك إلى أقصى حالات التهيب والاستعداد وكأنك داخل إلى مدينة تم مسخ سكانها بكل مواصفتها وينبغي عليك أن تتسلح بكل عتادك وعنادك حتى تصل إلى ما تبغي الوصول إليه. والتجربة بحد ذاتها هي فهم للدرك الذي بتنا فيه وماذا علينا فعله كي نخرج منه؟ هذه هي المشكلة وستبقى تقارع ذاتها زمنا حتى تتنبه الآلهة لصرخاتنا التي تموت في حلوقنا والتي من المنطق أن تهز العروش، لكن لا منطق في هذا الزمن الذي تجري فيه كل عمليات الإخفاء والحجب، الزمن المتهالك بكل عقاربه وبوصلاته وكأنه يتمثل في تبيان الكيفية التي تنزع نحو إعادة تدوير أو إعادة إنتاج كل هذا الخفاء من الأشكال.

يعي خالد حجار عالم الحياة النوعية وتوتراته واغترابه، لا من وجهة نظر المراقب بل من وجهة نظر الفاعل الذي يقوم على استنهاض الإمكانية المتأصلة في عالم الواقع وتفعيله، الذي ينبغي عليه أن يحرك المقومات والخصائص المشتملة على التميز المتزايد بطريقة غدت بها أشد تعقيدا.

حجار ومنذ سنوات طويلة مضت، لا يزال يذهب إلى مراكز الفعل لتفعيلها، إلى تلك المراكز غير المنفصلة وغير المستقلة والتي تندرج في استلهام الحقائق عن طريق الاحتفاء بالحياة، فيجد نفسه متعلقا بها من قمة البياض الذي يتنبأ بزخات من الألوان كمطر قادم من سحاب عابر، إلى ذلك النزيف الذي يرافق المكان وهو يخرج وليده وكأنه يطلق صوتا فيه غمغمة أو كان مكتوما وحان وقت ولادته حتى تتحقق البشارة ويهطل المطر، وكسارد لبنية حاملة لدلالات عميقة وكأنه يقول إن الحياة ستمضي ولا شيء يعكر صفوها مهما تلوث الإنسان ومهما حاول أن يرمي لوثته عليها، وبأن كل ما يحدث هو عابر، ولا يمكنه أن يحبط الإنسان في البحث الدائم عن سعادته وسعادة هذه الأرض، وهذه قد تكون إحالة مرجعية مستنبطة من السجل الطويل للخراب والتشويه الذي يتم والذي قد يمهد بجداريات حزينة للعمق الإنساني، لكن يبقى وضع اليد على الجرح بداية للتفكير في السير نحو الدواء.

ومهما تقاطعت الأحداث داخل وقائع حجار فهي تؤسس حكايته التي يشتغل عليها بعشق مهما مضت نحو التعقيد. فهو ينسج فصولها بأحوالها وأهوالها، بانفعالاتها وردود أفعالها وآلامه وآماله، بصوته الخاص بوصفه كائنا قادرا على أن يسرد اعترافاته وأسراره، آراءه ورؤياه، صمته وصبره، حكمته وسكونه، صرخته ووجعه حتى تمضي الحكاية كقافلة حاملة لكل ما ذكرنا، نحو خزائن يحمل حجار مفاتيحها منذ عقود وقد حان الوقت لفتحها والتقاط كنوزها ونثرها لنا وعلينا.

اللون هو الحياة، قالها خالد حجار مرة، لا كضرب من التقليد به يكتشف اهتمامه بما يمكن أن يكون عليه العالم ولو لم تكن هناك لغة، ولا كتحيز لتشكيل فهمه للعالم، ولا كلغة بوصفها ذلك الشيء الذي تقوم عليه الكينونة، بل كل ذلك معا كمنظومة مفتوحة مفروضة عليه وعلينا، فطبيعة اللون والحياة معا تكمن في الطابع الحواري وفي ذلك القدر الرفيع من الأفكار التي يبلغها الفنان ليطرحها لاحقا كحاجات ضرورية للمزيد من ضروب تناوله المفصلة التي يمارس عليها تأثيرات مختلفة، وهذا ما يمكنه من استخدام اللون كحياة شديدة الإيحاء متعلقة بمحتواها المتغير والتي تعبر عن حاجات غير واعية يمكن من خلالها فهم التغيرات الحاصلة على مستوى الحياة العامة وعلى مستوى الحياة الثقافية الأوسع حيث النظر إلى الأشياء لا يكون في فوريتها وآنيتها بل بما تطرحه.

مدن من مسوخ
مدن من مسوخ 

هذه النظرة قد تكون لازمة الإنتاج لدى حجار مع لفت الانتباه إلى ضرب من الحنين إلى أطروحات وأفكار تستمد أهميتها في إشاراتها وما تثيره تلك الإشارات من افتراضات ترى بدورها أن سيرورة التغير هي التي ستحرر الفنان من قيود وضروب الروتين التفاعلية التي قد تحمل من الأيديولوجية الكثير، الأمر الذي يجعله يتعقب اللحظات كي يحررها بدوره من ألوانها كي تكون، فالإحساس هنا باللون يخرجه من مآزقه التي تقع فيه عادة. هذا ما يدفع حجار إلى فهم العلاقات بين تدرجاته وبأنها مصدرا خصيبا للإنتاج دون أن يضطر حجار إلى اللجوء إلى الاستخدامات المجانية للون، فهو يدرك تماما أن الاستخدام المجاني للون يذهب باللوحة وبالفنان أيضا، لهذا الدقة والتركيز والمسؤولية في استخداماته هي مشروعه في تجاوز ما أبداه أسلافه.

“يبقى اللون هو الحياة فإذا كانت الحياة فقاعة علينا أن نصورها قبل أن تنفجر”،  العبارة التي كتبت على أحد أستوديوهات التصوير في النجف في العراق حسب ما قاله الفنان العراقي سعدي الكعبي في أحد لقاءاته، كذلك اللون علينا أن نحرسه من افتراضات زمنية ونعمد إلى استكشافه في العمل الفني بالمزيد من التفصيل، بالمزيد من الشغف والحب، بالمزيد من الرغبة في التوسع في فهمه.

هل نسمح لأنفسنا بغزوها بكل هذا الهم والحزن والتعب ونحن نبحر في عوالم حجار وأعماله؟ هل الهم والحزن والتعب بات علينا أمرا سهلا أم أن عوالم حجار المؤلمة هي التي تزيد في عدم مقدرتنا على ضبط مشاعرنا حتى نغدو عاجزين تماما عن تحمل تلك الآلام التي هي آلامنا في النتيجة؟

ليس غريبا أن يزداد نفوذ العاطفة فينا وفي مسالكنا كبشر. وما يحاول حجار عبر أعماله أن يفعله ليس لاعتبارات ضيقة معينة، بل لإبراز خصائص المأساة التي نعيشها جميعا والتي تثير بحرا هادرا من المشاعر القاتمة التي قد تكون في حد ذاتها خطرة وضارة علينا، لكن لا مفر أمامنا، فالشعور بالرأفة والخوف والقلق له أهمية كبرى وعلى نحو أخص ما قد تتضمنه تلك المأساة من عواطف، فلا شك أن التسليم لإفراط المشاعر أمام عوالم حجار هو إفراط في كل شيء بما في ذلك إثارتها لذاتها. في هذه الحالة ليس من السهل أن نتهرب منها، أقصد أن نتطهر منها، بل من المستحيل أن نفعل ذلك، ففينا من المعاني ما يرمي إليه حجار، بل باتت وكأنها ضرب من طقوسنا اليومية، ولهذا من المؤكد أن ما يثيره من عواطف بطريقته الخاصة هو رد أو لنقل انسجام مع تلك الطقوس، فلا يجوز استبعاد أي بعد منها.

حجار يقدم مادة ليست غريبة عنا، فيها من التشابه والتقاطع مع السائد فينا مقادير كبيرة وخاصة، وكأنها طريقة لتطعيمنا كمتلقين عاطفة مماثلة كالتي في نفوسنا، رغم نزوعه إلى التجاوز الذاتي وخرق الدائرة التي يرسمها حتى لا يجد نفسه فجأة أسير تجربة بدأت تظهر ملامحها في تناقضاتها الداخلية، حتى يتجاوز المستمر بجمالية التجريب بوصفها مشروعية فنية، نحو الوجهة الإبداعية غير النمطية التي يصبو إليها، فكل حركة فيها هي محاولة للخروج عليها وتكريس جمالية بعينها، وهو يسعى إلى أن يوظف كل أشكاله وإن أثقلها حينا بأشكال جديدة مغايرة تماما بمقولاته التي ستكسو أعماله ضربا من التألق الذي لم نعد نلقاه إلا نادرا.

15