خالد الصاوي وجها لوجه أمام تابوهات السياسة والمجتمع

الأحد 2016/03/20
فنان غامر بشجاعة لتقديم دور حساس

القاهرة - لا يزال أرشيف الدراما يحفظ مواقف لممثلين متوسطي الشهرة قبلوا أدوارا تهرّب منها النجوم، فكانت نقطة تحوّل في مشوارهم الفني. كان أشهرهم الراحلة مديحة كامل بعدما قدمت دور الجاسوسة عبلة سليم في فيلم “الصعود إلى الهاوية”.

في التاريخ الأقرب كانت المغامرة من النجم المثقف خالد الصاوي، الذي قبل أن يسبح ضد تيار ثقافة التكتم الذي يحكم المجتمعات الشرقية، ويقبل تجسيد دور صحفي “مثلي” في فيلم “عمارة يعقوبيان”، بعدما رفضه العديد من النجوم قبله.

كم من الممثلين العرب يمكن أن يوافقوا على تجسيد شخصية مثلية؟ وكم من ممثل يقبل بدور الشاذ جنسيا؟

الإجابة قد تكون معروفة، لكن الأفضل أن نستقيها من تصريح للفنان السوري المعروف جمال سليمان، عندما علّق على قبول خالد الصاوي لدور حاتم رشيد بالثناء على شجاعة الفنان المصري في تقدم دور الشاذ في “عمارة يعقوبيان” وأدائه البارع في تجسيده، مؤكدا أنه يحسده على تقديم هذا الدور، خاصة أنه من الصعوبة على أيّ ممثل عربي أن يوافق على تقديمه.

هذا الرأي يلخّص فهم خالد الصاوي للفن في مجتمعات شرقية تدّعي المحافظة، بينما هي في الواقع تعيش على تلال من التناقضات.

مغامرة خالد الصاوي كانت أكثر خطورة من مغامرات كل من سبقوه، لأن الدور الذي جسده لم يكن يمثل فقط نمطا مكروها اجتماعيا، مثل الجاسوس أو اللص، لكنه اصطدام بثقافة الكتمان التي تتحكم في عقلية المجتمعات العربية، وتجعلها توافق على أن يعيش الكثيرون حياة مزدوجة، نصفها الذي يظهر أمام الناس طبيعي ومشرّف، بينما نصفها السري حافل بالمتناقضات.

كذلك كان دور حاتم رشيد رئيس التحرير المرموق المثلي في “عمارة يعقوبيان” بمثابة دق غير مضمون النتائج على واحد من أكثر “التابوهات” تعقيداً.

لكن الصاوي، استدعى كما قال في حديثه مع “العرب” مخزون التمرد من ذاكرة المراهق والشاب الجامعي ليوافق على خوض المغامرة، مدفوعا في ذلك بقناعته الشخصية حول ضرورة عدم إهالة “تراب العادات والتقاليد” على نماذج إنسانية موجودة في مجتمعاتنا.

الدور الأهم في الحياة "الصاوي المشاغب"

الاختيار الصعب

مشوار خالد الصاوي الفني حفل بالعديد من الأدوار المتناقضة، بدأها بدور جمال عبدالناصر في الفيلم الذي أخرجه السوري أنور القوادري عن رئيس مصر الراحل، وهو فيلم لم يلق حظه من النجاح لأسباب بعضها فني وأكثرها سياسي.

لكن ما تبقى للصاوي من جمال عبدالناصر الحرج البالغ الذي شعر به قبل قبول دور حاتم رشيد في عمارة يعقوبيان، حيث يجسد حالة مناقضة تماما لحالة الزعيم وملهم الأمة التي قدمها مع القوادري.

يكشف خالد أن هذا التناقض كان أحد أسباب قبوله للدور، لأنه منذ بدايته كان اختياره الأهم ألاّ يحصر نفسه في نوعية معينة من الأدوار. ولهذا تمرد لاحقا على دور ضابط الشرطة حينما رأى أن المخرجين يحصرونه فيه بعد نجاحه في تقديم الدور بشكل لافت في فيلم الجزيرة عام 2007.

لهذا قدم شخصية الطبيب المريض النفسي في “الفيل الأزرق”، وشخصية الجراح المشهور الذي يعاني من صعوبات في مسلسل “خاتم سليمان”، ورجل أعمال انتهازي في “على كف عفريت”، ثم الشاب الفقير والصعلوك في مسلسل “الصعلوك”، وكلها أدوار غير نمطية نجح من خلالها في التعبير عن جانب جديد من مواهبه الفنية في كل دور منها.

خارج السرب

في اللحظة التي سبقت موافقة الصاوي على سيناريو الفيلم وأداء دور حاتم رشيد، دارت تفاصيل كثيرة برأسه. كان في ذلك الوقت في عام 2003 على بداية الطريق نحو النجومية والانتشار، ويحتاج للظهور في عمل جماهيري كبير مثل “عمارة يعقوبيان” من تأليف الكاتب الكبير علاء الأسواني، يشارك فيه أبرز نجوم السينما المصرية مثل يسرا ونور الشريف وعادل إمام وغيرهم، خاصة أن نور وإمام هما من رشحاه لأداء هذا الدور.

لكن في المقابل، تمثلت أمامه مجموعة من المخاطر بعضها فني مثل خشيته من أن يسجن في هذا القالب. وهو الذي يعرف أن النجمين المرموقين رشحاه للدور بعدما شاهداه يؤدي دورا مشابها في مسرحية الكاتب السوري سعدالله ونوس “طقوس الإشارات والتحولات”، ما قد يحكم على مستقبله الفني بالتموضع داخل إطار أدوار المثليين.

خشيته زادت بعدما علم باعتذار نجوم كبار عن الدور، من نوعية محمود حميدة وفاروق الفيشاوي. وتضاعفت عندما قرأ تصريحات قديمة للفنان يوسف شعبان قال فيها إنه ندم على أداء دور المثلي في فيلم “حمام الملاطيلي” الذي ظل لسنوات طويلة ممنوعا من العرض العام.

الصاوي بدور جمال عبدالناصر مع المخرج أنور قوادري

يحكي الصاوي لـ”العرب” عن تلك الفترة التي سبقت موافقته على الدور فيقول “شعرت بالخوف من تقديم الدور، خاصة أن كل أصدقائي أجمعوا على ضرورة رفضه، خوفا من رد فعل الجمهور والنقاد، وما حسم أمري بالموافقة في النهاية قناعتي بأن جزءا من التزامي كممثل لفت انتباه الناس للشخصيات الموجودة في الحياة، ورأيت أن دور حازم رشيد ليس بعيدا عن هذا الالتزام، لأننا لا يجب علينا كفنانين أو حتى كرأي عام أن نقيّم الشخصية بالمعايير الأخلاقية فقط، لأن ذلك يحدّ من اكتشافنا لها، وفي نفس الوقت لن يلغي وجودها من المجتمع″.

فقد بقي موضوع المثلية محرّما في الأدب والفن لعقود طويلة خشية من المبدعين العرب، على مواجهة ثقافات مجتمعاتهم، وهو منطق شبيه جدا بما تعامل به المجتمع الغربي قديما مع شخصية “أحدب نوتردام”، رغم أن بشاعة شكله ليست من صنعه.

في السينما اقتصرت أدوار الشواذ على الظهور في هوامش الأفلام التجارية التي بدأت في الظهور في سبعينات القرن الماضي، لإرضاء طبقة صاعدة من الحرفيين ورجال أعمال فترة الانفتاح، لإكمال تقديم خلطة السخرية السوداء التي ترضي أذواق الزبائن الجدد، فظهرت نماذج لشخصيات من هذا النوع في عدد محدود من الأفلام لعل أبرزها “خمسة باب” و”الإرهاب والكباب”.

بقية التفاصيل يرويها خالد بنفسه فيقول “من يتأمل شخصية حاتم رشيد يجد فيها ازدواجية غريبة تجعله يقترب من الانتحار عدة مرات، فهو يعيش في محنة، ويحتاج لمن يساعده، وليس لمن يحكم عليه، فهو ثمرة زواج غير مستقر بين والد مصري أستاذ في القانون الدولي يدعى حسن رشيد وامرأة كانت تعمل في بار، حيث كان الأب دائم الغياب عن المنزل، والأم مشغولة بحياتها الاجتماعية وتنقلها بين البارات”.

يضيف الصاوي “البعض رأى في شخصية حاتم تعبيرا عن فشل مشروع تغريب المجتمع المصري، ونموذجا لما يمكن أن ينتجه هذا المشروع من أفراد منحرفين أخلاقيا أو جنسيا، مستندين على وقائع متفرقة لا رابط بينها مثل عبدة الشيطان وغيرهم. لكن قراءتي الشخصية للدور دفعتني للتركيز على إبراز التناقض في شخصية رجل ناجح ومعروف يعيش عالمين مختلفين تماماً. فهو في عالمه السري رجل مسجون داخل مشاعره، يتردد على بارات رخيصة في وسط البلد بالقاهرة لاصطياد الشباب منها، بينما هو في عالمه المعلن صحافي مشهور ورئيس تحرير صحيفة أجنبية مرموقة”.

الحقيقة أن أداء خالد الصاوي في “عمارة يعقوبيان” يقترب في عبقريته من أداء الممثل الأميركي الشهير توم هانكس عندما جسّد شخصية مشابهة في فيلم “فيلادلفيا”.

وفاجأ خالد الصاوي الجميع بقدرته الكبيرة على تجسيد الشخصية ليستحق بعد عرض الفيلم أن ينال جوائز عديدة، وباتت نقطة تحوّل مهمة في مشواره الفني.

موهبته متعددة التفاصيل في التمثيل والإخراج والتأليف مكّنته من ابتكار ملامح كثيرة لشخصية حاتم رشيد، لإقناع الجمهور بحالته دون أن يقع في فخ التصريح المباشر عن ذلك، فكان المشاهد يستطيع تلمّس انحرافه في طريقة سيره، وجلابيته وحركات يديه.

حاتم رشيد في عمارة يعقوبيان الدور الإشكالي

تقمص صعب فنيا لكنه أكثر صعوبة في الواقع، لا سيما في التعامل مع تبعات الدور في الوسط المحيط به بعيدا عن الفن، مرحلة صعبة كما تحدث عنها الصاوي قائلا “بعد عرض الفيلم وجدت نفسي لفترة أتجنّب الظهور في الأماكن العامة التي اعتدت التواجد فيها أو زيارتها من وقت إلى آخر، خاصة أنني أعتز بكوني ناشطا سياسيا ولي مواقف وأنشطة منذ أيام الجامعة. لم يكن اختفائي عن الظهور العام مدبّرا أو مطلوبا، وإنما كان فقط تصرفا لا شعوريا ربما نتج من إدراكي لحساسية الدور الذي قدمته”.

ويضيف الصاوي ضاحكا “ظللت فترة بعد ذلك أتعامل مع الناس في الشارع وفي المنازل المجاورة لي بجفاء غير مبرر، ربما لأنزع من أذهانهم شبهة أنني مثل حاتم رشيد، خاصة أنني في ذلك الوقت لم أكن متزوّجا لانشغالي بالفن. لكن في ما بعد تطور القلق من مجرد الإحساس بالحرج المجتمعي إلى محاولة بعض الإعلاميين المرضى معايرتي بالدور، لتجريدي من حقي في معارضة الحكم التي كنت أحد نشطائها البارزين قبل ثورة يناير 2011، من خلال عضويتي في العديد من الحركات اليسارية”.

وقد دفعه هذا الإحساس للخروج عن شعوره خلال استضافته في أحد البرامج الحوارية، عندما تلقى سؤالا حول إذا كانت هناك أمور مشتركة بيني وشخصية حاتم رشيد، فلم يدر بنفسه إلا وهو يرد بانفعال شديد على الهواء بأن أيّ شخص (هيقل أدبه) ويقول له “عمارة يعقوبيان” سيقدم فيه بلاغات في النيابة العامة، ولو واجهه وجها لوجه سيضربه بالكرسي وأيتّم عياله (أي يقتله ما يجعل أولاده أيتاما).

مشاكس قديم

القدرات الشخصية والثقافية التي يحتاجها فنان ما ليقدم على مغامرة بمثل هذا الحجم، مدركا أن ما يقدمه هو جزء من التزامه تجاه فنه ومجتمعه، كان خالد الصاوي محظوظا بامتلاك الكثير منها منذ سنوات شبابه.

قناعة الصاوي بأن الدور جزء من التزامه كممثل تلفت انتباه الناس للشخصيات الموجودة في الحياة، ولذلك فقد حسم أمر موافقته على أداء شخصية حاتم رشيد دون تردد

فقد درس في كلية الحقوق قبل أن يلتحق بالمعهد العالي للسينما في نهاية ثمانينات القرن الماضي، وشارك في النشاط الجامعي العام بشكل دائم وتقلّب بين أكثر من تيار يساري داخل الجامعة، وعاصر في تلك الفترة واحدة من أكثر المراحل حساسية بين تعنت الدولة ورفضها قيام الطلاب بأنشطة سياسية أو عرض قضايا سياسية على مسرح الجامعة، وبين ازدهار طلاب الجماعات الدينية المتشددة التي تمثل المتنفس الوحيد للمعارضين للحكومة، لكنها في المقابل تحارب الفن وتراه حراما.

شارك في العديد من الأنشطة السياسية أغلبها ضد النظام المصري، سواء بالمشاركة في مظاهرات شعبية عدة ضد التدخل الأميركي في العراق عام 2003، أو مظاهرات دعم الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، ثم مظاهرة التضامن مع لبنان ضد العدوان الإسرائيلي.

وهو على عكس أغلب الفنانين لا يخفي مواقفه السياسية، ما جعله أول فنان مصري يشارك في حركة كفاية للتغيير التي تأسست عقب الانتخابات الرئاسية المصرية عام 2005، لمطالبة الرئيس مبارك وقتها بعدم الاستمرار في الرئاسة، وعدم ترشيح نجله جمال للمنصب. لكن مشاغبات الصاوي كلفته خسارة بعض جماهيره في الفترة الأخيرة، خاصة بعد موقفه من الشرطة المصرية عقب أزمة القبض على زميلته الفنانة ميريهان حسين، وقوله بأنه سيقف على الحياد مستقبلا في معارك الداخلية مع الإرهاب، وهو ما أدّى لحملة جماهيرية ضده طالبت بمقاطعة أعماله، قبل أن يعود الفنان ويكتب اعتذارا عمّا قاله في حق الشرطة.

الطريف أن مشاكسات الصاوي لم تقتصر على الفن والسياسة فقط وإنما امتدت لتطال صحته أيضا، حيث أعلن قبل فترة في جرأة يحسد عليها مرضه بالتهاب الكبد الوبائي (فيروس سي) الذي أصيب به قبل حوالي 10 سنوات، ثم شفي منه.

ولا يزال الصاوي قابضا على مواقفه السياسية، ومؤيدا للحريات إلى أقصى مدى، وداعما حقيقيا للفن بمعناه الشامل والمسؤول حيال قضايا مجتمعه.

9