حين يتعايش العالم مع المجرم

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دأب على التعايش والتكيّف مع التطورات الداخلية والخارجية التي تحدث في المنطقة وفرض حالة تدفع الآخرين إلى التعايش والتكيّف معها، فنراه قد تعايش مع الصداع اليومي الذي تحدثه المظاهرات والاحتجاجات شبه اليومية لإطلاق سراح الأسرى، والشد والجذب بينه وبين المعارضة الإسرائيلية وحتى في الاختلافات مع اليمين القومي المتطرف، وإلى اليوم لم يتغير شيء على صعيد قضية الأسرى المختطفين في قطاع غزّة، سوى حالة وحيدة عندما تم تحرير الرهائن الأربع في النصيرات.
نتنياهو تكيّف أيضا مع الاختلافات بينه وبين الإدارة الأميركية، مع الحفاظ على الحد الأعلى من الدعم السياسي والعسكري، فلم تقم الإدارة الأميركية إلا بالتماهي مع مطالبه، وذلك بتوافقها معه على الخطوط الأساسية القائمة على استمرار توريد شحنات الأسلحة والحؤول دون حصول دولة فلسطين على العضوية الكاملة، واستخدام الولايات المتحدة للبلطجة السياسية حين اللزوم، وأنا هنا أتحدث عن محكمة الجنايات الدولية.
◄ كل هذه الفظائع لم تغير قيد أنملة في تفكير حركة حماس وقيادتها المنفصلة عن الواقع، بل هي تشعر بأن ذلك يحقق لها أهدافها بزيادة التعاطف مع القضية الفلسطينية
وعلى صعيد اليوم التالي للحرب، فرض نتنياهو خطته على الجميع، وهي بكل بساطة “لا خطة”، مع الحفاظ على جائزة التطبيع المستقبلية التي سيحصل عليها حين قبوله فتح أفق سياسي جاد لإقامة الدولة الفلسطينية التي تفاخر العديد من المرات بأنه لن يسمح بقيامها. فهو يمضي في حرب الإبادة الشاملة في قطاع غزّة وإقامة البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية دون الحديث عن أي مستقبل ينتظر الدولة الفلسطينية المنشودة.
نتنياهو يريد حماس ضعيفة وسلطة وطنية فلسطينية أضعف، لأن التحدي البارز الذي يواجهه في ميدان الدبلوماسية هو الكيان السياسي الفلسطيني المقبول والمعترف به دوليا لما يضمه من معتدلين.
لا يختلف أحد مع نتنياهو حين يزعم أنه يريد القضاء على حماس، ولكن العالم بأسره مرغم على الاختلاف معه حين يسعى للقضاء على السلطة الوطنية، بما في ذلك الولايات المتحدة أشد شركائه في حربه ضد الشّعب الفلسطيني وقيادته.
وعليه، تظهر المطالبات بإصلاح السلطة الوطنية الفلسطينية بين حين وآخر، عندما لا تستجيب السلطة لمشاريع تصفية القضية الفلسطينية، وهو أسلوب قديم جديد منذ عهد الرئيس الشهيد ياسر عرفات ومستمر حتى اليوم، وهو أسلوب دس السّم في الدسم، وأسطوانة مشروخة ملّ الغرب والعرب من سماعها.
نجح نتنياهو وعصبته بتحويل العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين من مفاوضات سياسية والتزامات يقوم بها الطرفان إلى علاقة قائمة على الأمن أوّلا والاقتصاد ثانيا، وقد استخدم الإسرائيليون الاقتصاد وأنا هنا أعني أموال المقاصة كأداة ابتزاز للسلطة لرفضها المطالب الأمنية الإسرائيلية ورفضها بشكل قاطع أن تصبح سلطة عميلة شغلها الشاغل هو الأمن الإسرائيلي فقط لا غير.
◄ لا يختلف أحد مع نتنياهو حين يزعم أنه يريد القضاء على حماس، ولكن العالم بأسره مرغم على الاختلاف معه حين يسعى للقضاء على السلطة الوطنية
وبهذا تحصل إسرائيل على خدمات أمنية مقابل الاستمرار في تحويل الأموال الفلسطينية إلى الفلسطينيين أنفسهم، وأكثر من ذلك فهي تعيث خرابا ودمارا في كل فلسطين دون أن يجرؤ أحد ما على مطالبتها بتمويل إعادة الإعمار، أو الاعتذار بالحد الأدنى عما فعلته متعمدة، وكنوع من سياساتها التي تطبقها بغرض تفريغ المنطقة من سكانها وتوفير كافة الشروط القسرية والقهرية لتحقيق نكبة فلسطينية ثانية.
تأسيسا على ما سبق، يتعايش بنيامين نتنياهو مع أصوات معارضيه في الداخل وفي الخارج، ويرغم العالم بأسره على التعايش مع صور أشلاء الأطفال والنساء المقطّعة وجعلها أمرا اعتياديا كأن شيئا لم يكن وكأن مجازر لم تحدث إطلاقا، كما يفرض على الفلسطينيين وقيادتهم التعايش مع المستوطنات وقضم الأراضي وسرقة أموال المقاصة، كما تعايش من قبل مع حكم حركة حماس في قطاع غزّة ومده بالمال ليوفر له أسباب الاستمرار.
والغريب في الأمر، أنّ كل هذه الفظائع لم تغير قيد أنملة في تفكير حركة حماس وقيادتها المنفصلة عن الواقع، بل هي تشعر بأن ذلك يحقق لها أهدافها بزيادة التعاطف مع القضية الفلسطينية، هذا التعاطف “الخلبي” الذي لم يسكت مدفعا ولم يوقف طائرة ولم يدخل كأس ماء إلى قطاع غزّة.