حياة أسطورة الروك أند رول تينا ترنر رسالة إلى كل نساء العالم

ليس في بلادنا العربية فنانون أسطوريون، من هم على شاكلة تينا ترنر، التي تستحق لقب مناضلة قبل مغنية.
الأحد 2023/05/28
فنانة بأبعاد ملحمية

“إلى النساء العالقات في شرك علاقة مؤذية، أقول إنه لا شيء يمكن أن يكون أسوأ ممّا أنتنّ عليه الآن. انهضن وانتفضن من الرماد، وستفتح الحياة لكن ذراعيها من جديد”.

ظلت هذه العبارة الحاسمة بمثابة الوصية الأخيرة التي خطتها الفنانة الأيقونة، وملكة الروك أند رول، الأميركية تينا ترنر، في مذكراتها قبل رحيلها في بيتها السويسري منذ أيام.

نعاها كبار الشخصيات في عوالم الفن والسياسة والإعلام والمجتمع، بل وتسابق كل من هؤلاء للقول في مرثياتهم بأنهم قد جالسوها يوما أو استلهموا منها وأثرت في حياتهم.

أن يتزاحم النجوم على مختلف مشاربهم في تأبين الفقيدة والتعبير عن مشاعرهم، هذا يعني أنها أكبر من مجرد نجمة حُفر اسمها في شارع المشاهير بهوليوود.

◙ لا شك أن نساء كثيرات ـ ومنهن مطربات موهوبات ـ قد مررن بمثل ما مرت به تينا ترنر، لكنهن لم يتجرأن على مثل ذاك التحدي الذي مرت به ملكة الروك أند رول

وأن يرثيها ويذكر مآثرها جو بايدن، باراك أوباما، وأسماء مثل أوبرا وينفري، ماري كاري، رود ستيوارت، وغيرهم، هذا يعني أن لا تولد كل يوم واحدة بقامة آنا ماي بولوك، التي “سطا” الموسيقي آيك ترنر، على لقبها لتصبح “تينا ترنر” ـ من تبعاته ـ في أواخر الخمسينات، مالئة الدنيا وشاغلة الناس، المرأة التي تلهب الخشبات تحت قدميها في فن الروك، أينما حلت.

وخلف الأبواب الموصدة في بيت الزوجية، كانت تينا تعيش جحيما من القسوة والعنف من طرف زوجها الذي لم يوفر وسيلة في تعذيبها وكأنه ينتقم من موهبتها وقد ألحقها بـ”ممتلكاته” كما دلت عليه رمزية حملها لاسمه في الهوية، وهي التي قد عاشت العنف المنزلي في طفولتها.

هذا القدر الملعون جعل تينا تعيش الدرك الأسفل من البؤس والحرمان والتشرد، والفاقة التي جعلتها بلا مأوى وتقوم بتنظيف الفنادق كي تؤمّن قوت يومها.

بلغ الوجع منتهاه بمحاولات الانتحار ثم نهضت تينا من رمادها كطائر الفينيق، انتفضت على جرحها وعادت لتبهر جمهورها غناء وتمثيلا ورقصا إلى أن لامست الإعجاز، ولكن بنظارات سوداء تخفي كدمات في العينين. نافذة الروح.

حتى أيامها الأخيرة، لم تتخلّص تينا ترنر كليا من ندوبها النفسية التي خلّفها زواجها العنيف، ولا الكوابيس التي كانت تؤرق نومها كما يقول المقربون منها.

حياة تينا ترنر، كانت بمثابة الرسالة الموجهة إلى كل النساء المعنفات في هذا العالم الذي يدعي المساواة والتحضر، وأسطورة من أساطير الصمود والتحدي، لا عبر الشعارات والخطابات الجوفاء، وإنما عن طريق الفن في أرقى تجلياته، وكأنها تريد التأكيد على أن الإبداع العظيم تصنعه معاناة عظيمة.

الأمر لا يتعلق طبعا، بالبحث عن المعاناة وافتعالها في سبيل تسويق الذات، وإنما بالقدرة على تحدي الذات والانتصار على الظروف القاهرة.

وفي كل مرة يأفل فيها نجم وتغيب فيها موهبة، يكتشف العالم عند البحث في سيرته، أن المتوفى لم تكن تختفي خلفه حياة عادية.

قد يقول قائل إن أساطين الفن والإبداع أوشكوا على الانقراض بعد وفاة كل واحد فيهم، خصوصا في العالم الغربي.

قد يبدو الأمر شبيها بما يمكن الذهاب إليه مقارنة بما يسود الآن، لكن الحقيقة في باطنها بالغة التعقيد، ولا يمكن فهمها إلا عبر مقاربات في عالمنا العربي.

ما سوف يطرحه نقاد الفن عندنا واضح وجلي: لماذا لا يوجد في عالمنا العربي مثل هذه الأساطين في الفن والثقافة؟ وهل إن مواهبنا منقوصة من دون ما يجري في بقية الثقافات والحضارات؟

◙ أن يتزاحم النجوم على مختلف مشاربهم في تأبين الفقيدة والتعبير عن مشاعرهم، هذا يعني أنها أكبر من مجرد نجمة حُفر اسمها في شارع المشاهير بهوليوود

ليس بجديد أن نذكر بأن الفنون مرآة عاكسة لثقافات المجتمعات ومدى حظوظها من التطور الذي يمنح نوعا من الهيمنة الإعلامية تصل حد الاستيلاب أحيانا، بالإضافة إلى الانفتاح على مستوى الذائقة التي تتجاوز الانغلاق والانكماش. هذا ناهيك عن التركيبة الاجتماعية والبنية الثقافية اللتين لا تنزعان نحو المغامرة وركوب المصاعب والمجازفات.

دعونا نقول إن الفن لدينا ما زال يدور في فلك صالونات “النوفو ريش” أي حديثي النعمة والسماسرة الجدد الذين يستثمرون في أصوات وحفلات بقصد الربح المريح.

الصراحة أن ليس في بلادنا العربية فنانون أسطوريون، من هم على شاكلة تينا ترنر، التي تستحق لقب مناضلة قبل مغنية، وذلك لأسباب قد يطول ذكرها، وإنما تتلخص جميعها في التركيبة الاجتماعية والنفسية والثقافية، ذلك أن الجانب الملحمي يبدو ضعيف الحضور لدى الفنانين والمثقفين العرب.

لم نقل إن هذا الجانب غائب تماما، لكنه يختصر على فلتات خارج سياقها التاريخي والاجتماعي مثل فترتي الأربعينات والخمسينات اللتين ظهرت فيهما روح التمرد والتطلع إلى عالم جديدة بعد الحقبة الاستعمارية التي غذت ـ والحق يقال ـ بعض المبادرات والمغامرات الإبداعية.

لا شك أن نساء كثيرات ـ ومنهن مطربات موهوبات ـ قد مررن بمثل ما مرت به تينا ترنر، لكنهن لم يتجرأن على مثل ذاك التحدي الذي مرت به ملكة الروك أند رول.

وفي النهاية تبقى حرية الاعتقاد والتفكير كفيلة بصناعة المصائر كما في حالة تينا التي كانت في شبابها تغني في كورال الكنيسة ثم اعتنقت البوذية خلال إقامتها الفترة الأخيرة في سويسرا، معبرة عن قلق وجودي لا مثيل له.. وهنا يكمن الجانب الملحمي والأسطوري لدى مبدع في حجم تينا ترنر.

9