حنا الحايك يذهب إلى الله بلغته التي لا تندثر

الذكرى الرابعة لولادته الجديدة في فضاء أرحب من هذه الأرض.
الخميس 2024/05/09
شكل يحافظ على نظام الفنان

تحل الذكرى الرابعة لرحيل الفنان التشكيلي حنا الحايك، لتذكّر بموهبته المميزة وبلغته البصرية التي لم تنته بغيابه وإنما ظلت تروي لنا التاريخ الغابر برموز وتشكيلات خلقت من هموم الفنان وأحلام وطنه وآمال أبناء أمته التي احتلت ذاكرته.

حنا الحايك اسم آخر يلف قلبه وروحه بقماشه الأبيض مشكلا لنا لوحته الأخيرة، اللوحة التي لن تبرح العيون والقلوب، يلف زاده ليتركنا في موتنا الطويل، ويلتحق بأصدقائه الآخرين الذين شاركوه في تجميل هذه الحياة والتقليل من بشاعتها، يحزم نبضاته وشهقاته متلهفا للقاء شركائه في خلق الأرواح العذبة، فجوقتهم بانتظاره محتفين به وبخلاصه من الأرض وبنيها الذين حولوها إلى مرتع للخراب والحقد والغبار. نعم أصدقاؤه مالفا وعمر حسيب وصبري رفائيل وخلف الحسيني وعبدالرحمن دريعي وآخرون فرحون به وبخلاصه، فالأرض خلقت للزواحف والحيتان، وحدها السماء تليق بالأجنحة المرفرفة بالحب والحياة.

الحايك الذي رأى الضوء في الحسكة عام 1941، وأغمض عينيه في السويد في السادس والعشرين من أبريل 2020، كتبت عنه من قبل ودعوت إلى تكريمه، فأعمدتنا التي ترفع سمواتنا تستحق منا كل التكريم لهؤلاء المبدعين وهم بيننا، فعلى مدار أعمارهم يزرعون حقول الورد في قلوبنا وفي حياتنا، ألا يستحقون منا لفتة صغيرة، باقة ورد صغيرة من تلك الحقول التي زرعوها نردها إليهم ونذكرهم بأنهم عناويننا في هذه الحياة، باقة ورد صغيرة مع باقة ابتسامات نقدمهما إليهم وهم ينبضون بيننا؟ أليس ذلك خيرا من كل ورود الأرض وهي ترمى على رفاتهم؟

نصف قرن وحنا الحايك يتحدث ويتواصل ويتخاطب بالألوان، عبرها يخاطب الدنيا برمتها
نصف قرن وحنا الحايك يتحدث ويتواصل ويتخاطب بالألوان، عبرها يخاطب الدنيا برمتها

هذا قدر المبدعين عندنا، لا نتذكرهم إلا حين يرحلون إلى السموات تاركين الأرض لنا نلوثها بكل أوساخنا وحروبنا التي لا حدود لها.

لا يمكن أن نغفل اسم حنا الحايك ونحن نعيد الزمن إلى الخلف نصف قرن، فهو من الجيل الذي اشتغل على تعزيز الدور للذائقة الفنية، وإحدى علامات الفن التشكيلي في الجزيرة السورية، وهو أحد الأسماء الفاعلة في مشهدها التشكيلي، المشهد الذي كان لافتا في إصراره على أن الفن ينبغي ألا يكون هامشا، وأن يكون زادا مهما كانت النظرة إليه مريضة ومنكسرة، المشهد الذي كان مثيرا في جوهره حيث الخيال يجهد في استثارة مقدار غير محدود من الحب للحياة والإنسان، المشهد الذي أطلق أسماء ممثليه لتكون شاهدة عليه وعلى فاعليتهم على مدار نصف قرن وأكثر، على قدرتهم على حمل الخبرة الجمالية التي تضعهم بالضرورة في المرتفعات فالواقع يطاردهم بتفاصيله، والكشف يبعث الإدهاش بلغة كانت تتنبأ بانفجار غير منفصل عن المستويات الأخرى.

هنا كان ينبغي أن تترسخ أسماؤهم حينها، وفي زمان جديد ومغاير كانت تنتظرهم. الحايك كان منهم، ينتج ما يثير الاستجابات الجمالية دون أن يدعها تسقط في المألوف وإن كان الجديد حينها أصبح مألوفا وعاديا فيما بعد، دون أن يدعها تقع في تتابعات لمحتويات غير متوقعة، ولهذا جاء نتاجه وكأنه مقاطع لونية داخل قصائد تبحث الخلاص من القافية، مقاطع تحمل معلومات مستمدة من ذاكرته التاريخية، ويتعمد استحضارها لأنه ينبض بها ولأنها تشكل ذاكرته التسجيلية التي ينبغي أن تكون مشتملة على جوانب فيها تكون مكونات جهده أكثر سخونة.

وإن كان الشكل الفني محافظا على نظام الفنان وغير منفصل عنه، فإن النظام المنتج لعمله هو ذاته النظام الذي يمنحه قيمة معرفية وبالتالي القيمة المعطاة التي نستدل عليها من موسيقاها الخارجية والداخلية معا، ومن سيطرة الانفعالات التي قد تثير التوترات والتوقعات إلى درجة ما.

ألوان كثيرة التعبير
ألوان كثيرة التعبير

فالعمل على تصريفها وخفضها قد يكون ضرورة وإن كان ذلك مرتبطا بسيطرة مشاعر خاصة تتعلق بالصدمات التي تنتمي إلى ماض يشاركه المصير المشترك نفسه الذي قد يزيد من إحساسات الأمان الخاصة لديه، مؤكدا بذلك أن العمل على خلق مشاهد متخيلة أمر وارد وإن كانت الحقائق ليست بعيدة عن ذلك، فالمتعة الجمالية والشعور بها مع الاشتمال على نوع ما من التأمل هي التي تجعل النفس بقوة تسمح له بِكمِّ من الحب به يستطيع المرء مواجهة الصعاب مهما كانت عسيرة، ومواجهة الأشياء مهما كانت غامضة.

نصف قرن وحنا الحايك يتحدث ويتواصل ويتخاطب بالألوان، فالألوان لغته وهي الأكثر تعبيرا، عبرها يخاطب الدنيا برمتها، فهي اللغة التي لا يمكن أن تندثر، ولهذا لم يجد صعوبة في السويد والاندماج فيها حين هاجر إليها قبل أكثر من أربعين عاما (1977)، بل استطاع أن ينخرط في مجتمعها وأن يأخذ لنفسه مكانا يليق به، يتأثر بأبنائها ويتأثرون به.

كان حاضرا في المشهد التشكيلي بالسويد إذ أقام في متاحفها وصالاتها وفي متاحف وصالات أوروبية أكثر من أربعين معرضا، وأصبح عضوا في اتحاد الفنانين في السويد وفي الدول الإسكندنافية وفي ضوء الفترة الزمنية التي عاش فيها كان يعمل مدرسا للتدفقات اللونية.

خير ما أختتم به مادتي عن هذا الفنان ما قاله عنه صديقه فؤاد كمو في سرده عنه: “في بداية السبعينات من القرن الفائت كان حنا وعائلته يسكنون في حي الصالحية بدمشق، يسكنون في الطابق الأخير أي على سطح إحدى البنايات، كنت أمازحه وأسأله في كل مرة وعند مدخل البناية أين يسكن فيجيبني بدوره ممازحا: عند الله، حقا إنه الآن عند الله، صعد إليه مرفرفا، فقد قرف الأرض وما يجري فيها وعليها، كان الله ملجأه الآمن والأخير، ليتركنا في وجعنا غير الأخير”.

14