حملة تصحيح المفاهيم على المنصات الرقمية في مصر تصطدم بهجمة سلفية

توظف التيارات الإسلامية المتشددة العالم الافتراضي للترويج لفتاوى تستند إلى التراث وتستهدف شريحة واسعة من المجتمع من خلال إرضائها وتقديم المعلومة التي تجذب الناس إليها وتبعدهم عن المؤسسة الدينية الرسمية ذات المنهجية الكلاسيكية والخطاب التقليدي. ونظرا لما يمثله الحضور الإلكتروني لهذه التنظيمات من خطر متفاقم على المجتمع، فقد اختارت دار الإفتاء المصرية إطلاق مشروع فقهي إلكتروني يعرّف مستخدمي وسائل التواصل دينهم الصحيح، لكنه سرعان ما قوبل بانتقادات واسعة خاصة من التيار السلفي.
القاهرة - لجأت دار الإفتاء المصرية لإطلاق مشروع فقهي موسع من خلال حملة إلكترونية بعنوان “اعرف الصح”، تستمر ستة أشهر، لتصحيح المعلومات والأفكار الدينية المغلوطة، وحصار التيارات المتطرفة على شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي بزيادة مساحة الفتوى الإلكترونية، ونشر صحيح الإسلام.
تقوم الحملة على مبدأ استفتاء جهة الفتوى لنفسها، حيث قامت بحصر أكبر قدر ممكن من القضايا الجدلية المثارة في الوقت الراهن على المنصات، للرد عليها عبر صفحاتها الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي المختلفة من خلال تصميم شعار يحمل اسم “اعرف الصح”، وتكون الفتوى قصيرة وحاسمة.
قطيعة مع الشارع
تهدف الخطوة إلى استمالة متصفحي الشبكات الاجتماعية بعيدا عن اللجوء إلى المتشددين الذين صاروا منتشرين بكثافة على الفضاء الإلكتروني، ويجيدون استخدام منصات التواصل بطريقة تغري البعض من روادها للتماهي معهم بعيدا عن الخطاب التقليدي للمؤسسة الدينية.
وظلت جهة الفتوى في مصر تميل إلى التعامل مع طالبي الفتوى بطريقة نمطية، إما عبر تخصيص أرقام هواتف يتم الاتصال بها للحصول على الرأي الديني في أي مسألة فقهية أو توجيه أسئلة لعلماء المؤسسة عبر تقنية البث المباشر التي تطلقها يوميا من دون أن تذهب بمضمونها لمتصفحي الشبكات الاجتماعية.
وقال أحمد رجب أبوالعزم مدير مواقع التواصل الاجتماعي بدار الافتاء المصرية إن حملة “اعرف الصح” حققت نتائج إيجابية على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث وصلت إلى 24 مليون متصفح حسب إحصائيات فيسبوك، وتم رصد قرابة ستة آلاف تفاعل سلبي خلال الأسبوع الأول من الحملة.
ويشير هذا الرقم إلى أن شريحة ليست بالقليلة من جمهور الشبكات الاجتماعية غير راضية عن محتوى الفتوى التي تبثها المؤسسة الدينية، لتركيزها على قضية سطحية، أو أن الرأي الديني نفسه الذي يتم بثه إلكترونيا يتناقض مع قناعاتها وأفكارها، وهو ما انتبهت إليه دار الإفتاء وقررت رصد التعليقات السلبية لدراستها والرد عليها.
وأكد مدير مواقع التواصل بدار الإفتاء في تصريحات إعلامية أن المؤسسة الدينية رصدت هجمة كبيرة شنها متشددون منذ إطلاق الحملة، والأكثر من ذلك أن بعض الصفحات التي تنتهج المنهج المتطرف سرقت تصميم شعار الحملة ونشروا فكرهم لتقديمه إلى الناس على أنه منسوب لجهة الفتوى لضرب أهداف الحملة في مقتل.
ويرى متخصصون في منصات التواصل أن حملة دار الافتاء وإن كانت هامة لضرب الفكر المتشدد، إلا أنها جاءت متأخرة وترتب على ذلك أن المتطرفين استطاعوا استغلال الفراغ الذي تركته المؤسسة الدينية لصناعة شعبية قوية لأنفسهم بين متصفحي المواقع الاجتماعية بعدما قاموا بدورها على مدى سنوات مضت.
وظهر ذلك في الاستطلاع الذي أجرته دار الإفتاء المصرية واختار 70 في المئة من المشاركين فيه الحصول على الفتاوى بعيدا عن علماء المؤسسة، من خلال منصات إلكترونية هويتها غير معروفة، وأغلبها تسيطر عليها جماعات متشددة، وعلى رأسها التيار السلفي الذي يسعى جاهدا لتعويض إقصائه من الإمامة والخطابة في المساجد بالاستحواذ على الفضاء الإلكتروني.
معضلة الفتاوى التي تطلقها الجهة الرسمية عبر حملة “اعرف الصح” أنها تبدو بعيدة إلى حد كبير عن تطلعات الشارع واهتماماته الضرورية، وإن كانت في أيامها الأولى، لكن البدايات توحي بأن دار الإفتاء تحاول أن تقوم بدور المؤسسة الراعية لتجديد الخطاب الديني من خلال بث فتاوى عصرية تتلاءم مع مستجدات العصر وتلامس الشباب من جمهور مواقع التواصل.
تحجيم التشدد
يقول خبراء إعلام إن اختزال تجديد الخطاب في تطوير شكل ومضمون الفتوى، أو في الفتاوى عموما يخدم المتشددين بشكل غير مباشر، لأنهم يتحركون في كل اتجاه مستغلين تمسك المؤسسة الدينية بالتراث الفقهي ويحاولون التجديد في ملف آخر تماما، وهو الفتوى على الإنترنت، مع أن الأصل أن تكون البداية من تنقيح التراث.
ورأى وليد حجاج الخبير في أمن المعلومات ومنصات التواصل أن تصحيح المفاهيم الدينية بالفتاوى العصرية ليست له جدوى قبل تفنيد الألغام الفكرية الموجودة على الكثير من المواقع الإسلامية التي لها جمهور كبير، وفتاواها متشددة، والمعضلة أنها تحتوي على آراء في تخصصات مختلفة لتكون بديلة عن جهة الفتوى.
وأضاف لـ”العرب” أن المؤسسات الدينية لا يجب أن تنتظر ذهاب الناس إليها، بل تبادر من نفسها بمنحهم جرعات فقهية معاصرة بديلة عن السموم الفكرية للصفحات المتشددة، والمفترض أن يكون ذلك بشكل مستمر لا عبر حملة إلكترونية محددة التوقيت، والمهم أن يكون الخطاب مرنا ليغري المستهدفين من جمهور الإنترنت.
وأظهرت حملة دار الإفتاء الإلكترونية أن هناك فرقا شاسعا بين المتشددين والمؤسسة الرسمية، فالأخيرة تحاول التعاطي مع العصر، لكن بطريقة نمطية، وهو ما ظهر في طبيعة الفتاوى التي تختار حسمها، في حين تبحث التيارات المتطرفة في الفضاء الإلكتروني عن قضايا تشغل بال الناس واهتماماتهم لجذبهم، باعتبارهم يرغبون في حسم هذه القضايا من أي جهة لها حضور في الوسائط الإعلامية.
كما أن تجاهل دار الإفتاء لتنقيح موقعها الإلكتروني من الفتاوى المتشددة التي صدرت في الماضي، وربما منذ سنوات ومازالت باقية، فتح شهية المتطرفين إلكترونيا لمناكفة المؤسسة، إذ تقوم بعض الصفحات بنشر رأي الدار حاليا مع صورة من رأيها السابق الموجودة على الموقع الرسمي لتُظهر كم هي متناقضة وليست ثابتة على موقفها.
وقال سامح عيد الباحث المتخصّص في الجماعات المتطرفة إن تصحيح المفاهيم المغلوطة بحملة إلكترونية منظمة يتطلب فهم طبيعة الجمهور المستهدف، وكلما كانت بعيدة عن تطلعات الشارع، يصبح من السهل ضربها ومحاربتها، والمشكلة أن المؤسسة الدينية مازالت منقسمة حول قضايا شديدة الاحتياج لدى الجمهور، قد يحسمها المتشددون لصالحهم بسبب كثافة حضورهم في العالم الافتراضي.
وأوضح لـ”العرب” أنه تصعب مواجهة المفتين المتطرفين على منصات التواصل بحملة لتصحيح المفاهيم دون إقرار تشريع يقضي بإغلاق المواقع والصفحات المتشددة، والخطر الأكبر أن الكثير من الباحثين عن الفتاوى ليسوال متطرفين، لكن بعضهم يقع في الفخ عندما يتصفح هذه المواقع بدافع الفضول لتتغير قناعاته، طالما أن هذه الفتاوى مصدرها التراث.
ويعتقد خبراء الإعلام أن حملة دار الإفتاء وشعارها “اعرف الصح” توحي بأنها عبارة عن ردة فعل إلكترونية، وهذه أزمة بعض المؤسسات الدينية، إذ في كل مرة تتحرك متأخرا، وتقوم بدور المدافع عن الحقيقة، ومن الطبيعي أن تتعرض لهجمة معاكسة من التيارات التي بادرت بحجز موقعها عند الجمهور عبر فضاء إلكتروني فسيح.
ومهما كانت نوايا جهة الفتوى سليمة وتسعى بالفعل لتحجيم منسوب التشدد بتعريف الناس صحيح الدين عبر المنصات، فإن التركيز على جمهور الشبكات الاجتماعية، دون النزول على الأرض بخطاب يناسب باقي الفئات الأميّة، فإن الحملة لن تؤتي ثمارها باعتبار أن القاعدة الأكبر من جمهور المتشددين لم يتلقوا تعليما كافيا ويتعاملون مع الدين بالفطرة ويرون أن ما يصلهم من شيوخهم عبر المنصات مفيد.