حلب كانت في بؤرة الصبر الإستراتيجي القطري وحان وقتها

هذه منطقة الصبر الإستراتيجي القطرية حيث أنفقت الدوحة المليارات سابقا وتستمر في الإنفاق رغم توقف الحرب عمليا منذ سنوات. هذا هو الوقت المناسب للعب الورقة والاستفادة منها.
الاثنين 2024/12/02
النسخة السنية من حزب الله

لو عاد الزمن أسبوعين، وكان الرئيس السوري بشار الأسد قد فهم مغزى آخر الإشارات التي كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يدعوه فيها إلى فتح صفحة جديدة للعلاقة بين البلدين، لشهدنا وضعا مختلفا في شمال سوريا. أردوغان، مهما ألصقت به من عيوب حقيقية أو مفترضة، لديه الكثير من الوضوح السياسي. أيّ متابعة لتاريخه السياسي، خصوصا كزعيم للإسلاميين الأتراك وباعتباره رئيسا للبلاد، تكشف أنه من الفئة التي لا تستطيع إخفاء ما يخطط له. الأسد لم ينتبه.

الإشارات التي كان أردوغان يطلقها هي التجسيد الكامل لحالة الفوضى السياسية والإستراتيجية في المنطقة الآن. يردد البعض أن عدو صديقي هو عدوي، أو صديق عدوي هو عدوي، أو سلسلة طويلة لا تنتهي من التركيبات في المفردات التي سادت عند وصف التقلبات بين الجيران والحلفاء والأعداء والأصدقاء. في حالة المنطقة الآن، أيّ تركيبة يمكن أن تكون صالحة؛ صالحة إلى درجة أن عدوي هو صديقي أيضا، أو صديقي هو عدو صديقي. استمر بما يحلو لك. انتهت قواعد الإحالة بين التوصيفات إلى درجة ضاع فيها التوصيف اليقين.

قبل أسبوعين، وصل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى تركيا وعقد لقاء “دوريا” مع الرئيس التركي أردوغان. لم يرشح شيء عن اللقاء أكثر من العموميات، لكنه كان لقاء غريبا. فالعالم كان في غمرة حربي لبنان وغزة، وقطر ضالعة في الحربين أو على الأقل طرف في مفاوضات الهدنة في غزة. انسحب القطريون من مفاوضات الهدنة بين إسرائيل وحماس، وكانوا ينتظرون توقيت إعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله -وكان قادما لا ريب فيه مهما تأخر. وجرت الأمور كما كان متوقعا وعلقت حرب لبنان، لتستعيد حرب غزة مركزيتها بالنسبة إلى الإسرائيليين. القطريون الذين يخشون التفات الإسرائيليين نحوهم لتصفية حساب قديم، كان عليهم أن يجدوا لهم مكانا في الأزمة من دون العودة إليها كطرف مباشر.

◄ الهيئة والجولاني تلقّيا الضوء الأخضر من تركيا لتنفيذ اجتياح حلب والسيطرة على جغرافيتها المجاورة بما فيها ما ترك بيد القوات السورية في ريف إدلب والطرقات المؤدية إلى حمص وحماة

لا شك أن أمير قطر سأل مساعديه: ما رأيكم؟ هل حان وقتهم الآن؟ وكان الرد: نعم؛ حان وقت هيئة تحرير الشام. لقد استثمرنا فيها طويلا وصنعنا (باستخدام توصيف الخبير السوري مالك العبدة) نسختنا السنية من حزب الله، وصار أبو محمد الجولاني زعيم الهيئة الشخصية الأشبه بحسن نصرالله.

ما يستثير الإسرائيليين الآن هو أن يستعيد حزب الله خط إمداده الذي يمر بالعراق قادما من إيران. خط الإمداد يمكن أن يتيح لحزب الله تعويض ما خسره من عتاد وصواريخ في حربه مع الإسرائيليين. والخط هذا يمر اليوم من الموصل وسنجار نحو الأراضي السورية نزولا إلى المعابر الحدودية بين سوريا ولبنان. الخط مهم لأنه يقع على طرقات مزدحمة بالحركة ويصعب تمييز ما يمر فيها من شحنات، على العكس من الطرقات الصحراوية في البادية السورية على الحدود الشرقية مع العراق، أي منطقة دير الزور ونواحيها. هناك يمكن للطيران الحربي الإسرائيلي المقاتل أو المسير أن يلتقط بسهولة الشحنات ويستهدفها في أي لحظة من ساعات الليل والنهار. خط الشمال الذي يصل حلب (أو يمر بها) يوفر غطاء أفضل كمسار لتوريد الأسلحة والمعدات والأغذية للميليشيات الإيرانية والعراقية والولائية من دول المنطقة. من يريد أن يسجل نقطة “حسن نوايا” مع إسرائيل، عليه أن يفعل هذا في هذه الجغرافيا تحديدا. وهذا ما حدث، عندما أقدمت قطر على تحريك أحد أهم الفاعلين السوريين المعارضين وهو هيئة تحرير الشام.

لا يتردد الخبراء المطلعون على الوضع في شمال سوريا في القول بأن الهيئة والجولاني تلقّيا الضوء الأخضر من تركيا لتنفيذ اجتياح حلب والسيطرة على جغرافيتها المجاورة، بما فيها ما ترك بيد القوات السورية في ريف إدلب والطرقات المؤدية إلى حمص وحماة. ما لا يريد الخبراء الجزم به أن الضوء الأخضر هو جزء من قرار تركي- قطري اتخذ لضرب أكثر من هدف واحد برمية واحدة. الهيئة، بولائها المعروف لتركيا وقطر معا، ما كانت لتتحرك من دون إيعاز قطري. ضع كل شيء جانبا ورد على أبسط تساؤل: من سيدفع تكاليف وقود وطعام عشرات الألوف من مقاتلي الهيئة في هذا الوقت الذي تشكو فيه تركيا من ضغوط الإنفاق على السوريين وكان من أهداف مصالحة أردوغان مع الأسد التخفيف من أعبائهم. كلما نظرت إلى حجم القوات المشاركة من الهيئة الذي يقدر بثلاثين ألف مقاتل من مخضرمي الحرب الأهلية السورية  -مع إمكانية أن يكون قد التحق بهم ما يزيد عن هذا العدد من الجيش السوري الحر الذي يبدو وكأنه ينتظر الأوامر للدخول في المرحلة الثانية من الهجوم على قوات الأسد- تدرك أن التمويل هو العصب الحيوي. وهذا التمويل للهيئة أو الجيش الحر هو جزء من ميزانية مستمرة منذ أن قررت القيادة القطرية الانقلاب على الرئيس الأسد مطلع الحرب الأهلية. وليس أدلّ على أن قطر لم تكن في وارد قلب الصفحة مع الأسد (رغم أنها قلبت الصفحة مع حزب الله) من تمنّع الشيخ تميم عن مصافحة الأسد في لقاءات القمة المتكررة في الخليج، بل والانسحاب من المكان قبل أن يبدأ الرئيس السوري بإلقاء كلمته.

قطر بحاجة إلى هدية تقدمها لإسرائيل في مسعاها للحصول على غفران لدعمها حماس وتمويلها على مدى السنوات، وهو الدعم الذي ساهم -في أوجه منه- في توفير رواتب مقاتلي حماس وتشييد الأنفاق، ولا نعرف إلى حد الآن الكثير من التفاصيل عن أي دعم لشراء السلاح. إذا كانت إيران تشتري البندقية والزناد، فإن قطر تدفع راتب حامل البندقية والضاغط على الزناد.

◄ ما يستثير الإسرائيليين الآن هو أن يستعيد حزب الله خط إمداده الذي يمر بالعراق قادما من إيران. خط الإمداد يمكن أن يتيح لحزب الله تعويض ما خسره من عتاد وصواريخ في حربه مع الإسرائيليين

أهمل العالم الموقف التركي من غزة طالما أنه كان صوتيا بامتياز، ولم يكن هناك موقف تركي أصلا مما يحدث في لبنان. لكن يوم الحساب الإسرائيلي للقطريين كان يلوح في الأفق. هنا، لا يهم القطريون أن يدوسوا على قدم الإيرانيين وهم يحاولون إنقاذ أنفسهم، وليس بينهم وبين الأسد حب مفقود. إيران، التي ليست في وارد الصدام مع الدوحة، كانت ستسكت مهما كان تصرّف القطريين حيال الأسد. كان ثمة الكثير مما يمكن للقطريين أن يربحوه من ضرب النظام السوري وشراء الرضا الإسرائيلي، أو على الأقل شراء الوقت مع الإسرائيليين إلى حين اتضاح الصورة مع الإدارة الأميركية الجديدة ويكون لكل حادث موقف.

الصمت القطري على ما يحدث في حلب يصم الآذان إن جاز التعبير. هذه حلب جارة إدلب وعلى حدود تركيا، منطقة النفوذ الأكبر والأهم للقطريين منذ عام 2011. هذه منطقة الصبر الإستراتيجي القطرية، حيث أنفقت الدوحة المليارات سابقا، وتستمر في الإنفاق رغم توقف الحرب عمليا منذ سنوات. هذا هو الوقت المناسب للعب الورقة والاستفادة منها.

ليس الهدف من هذا الحديث هو اتهام قطر بالتآمر على سوريا. للدوحة خطة في مواجهة النظام السوري، قد لا نعرف كل تفاصيلها، لكنها بالتأكيد موجودة ومستمرة كما يقول القطريون ذلك في شهادات كبار مسؤوليهم، أو حينما لا يقولون، ولكن يستمرون في التمنّع عن قلب الصفحة مع بشار الأسد. فكيفما قلّبت الأمر، لن تستطيع أن تجد مبررا لهذا الهجوم المباغت والواسع الذي شنته الهيئة، حتى في التوقيت، إلا إذا نظرت إليه من زاوية أن شمال سوريا ورقة احتفظ بها القطريون (وربما تركوها أمانة أو رهنا عند الأتراك) وآن أوانها اليوم. إنها ورقة عزيزة على القطريين إلى درجة أبقتها طوال فترة المراهنات السابقة قريبة من صدرها، ولم تشأ أن تكشف سبب تمسكها بها إلى هذا الحد، حتى لأقرب حليف مثل تركيا أو بلد مساوم مثل روسيا.

الآن عليك أن تختار أيّ تركيبة للمفردات بين عدوي وصديقي وحليفي. كلها في الفوضى الجارية تصلح. قرر أيضا إلى أي مدى يمكن الوثوق بمصالحة أو تهدئة أو صداقة مع قطر أو تركيا.

9