حكاية حضارية تلخص واقع التعليم في العراق

قرأت منذ أكثر من عقدين من الزمن، مجموعة بحوث قُدِّمت في ندوة عقدت ببغداد عن التعليم في بلاد الرافدين، ضمها كتاب بالغ الأهمية، إذ تناول الباحثون موضوع التعليم في العراق القديم، وبخاصة في بابل وآشور، وتوسعت البحوث التي قدمت في الندوة المذكورة، في تناول وضعية التعليم وتضمنت معلومات تؤكد تطوره على صعيد المنهج والوسائل والأداء والمؤسسات، غير أنني توقفت عند حادثة تفصح في تفاصيلها عن حكاية حضارية أو درس اجتماعي، لا يتعلق بالعملية التعليمية فقط، وإنما يرسم صورة مشرقة عن الحياة الاجتماعية آنذاك، وما اتسمت به من ضوابط وسياقات قانونية وأخلاقية.
ولو قارناها بالعملية التعليمية في العراق الآن، وهي مقارنة مستحيلة، لقادتنا هذه المقارنة إلى فضيحة مدوية، سببها تدني العملية التعليمية في جميع المراحل التعليمية، وتهافت الأداء التعليمي وانهياره على صعيد المؤسسات والمناهج.
وإذ كان التعليم في العراق الحديث، وتحديدا منذ بداية الحكم الوطني في العقود الأولى من القرن العشرين، بل حتى قبل هذه المرحلة الزمنية، قد شكّل عملية تعليمية متميزة بلغت ذروة تقدمها وحيوية إنجازها في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أنّ نكبة الاحتلال التي مسخت كل ما هو مشرق وجميل في حياة العراقيين، وكان نصيب التعليم من مخطط هذا المَسخ، كبيراً جداً، أخرج العملية التعليمية برمتها وبجميع مراحلها، من إطار التقييم العلمي والموضوعي، ووضعها في ذيل قائمة تسلسل مستوى التعليم في العالم، حسب تقارير أكثر من منظمة دولية، يؤكدها الواقع، باعتراف تربويين عراقيين وبشهاداتهم.
أما الحادثة التي توقفت عندها، فقد حدثت في إحدى مدارس مدينة بابل في القرن الثاني قبل الميلاد، وهي أن طالباً من طلاب المدرسة البابلية المذكورة، مارس الغش، فما كان من معلمه إلاّ أن يوقفه عن تلك الممارسة، ويذهب به إلى مدير المدرسة، وهنا ينبغي أن نلاحظ، ونحن في القرن الثاني قبل الميلاد، إن ما يشير إليه هذا الخبر، مدرسة متكاملة لها معلموها ومديرها ودروسها وفيها امتحانات تجرى لطلبتها.
ويقرر المدير، حرمان الطالب الذي مارس الغش من إكمال الامتحان، فيذهب الطالب المعاقب إلى محل والده الذي كان يمتهن الخياطة، وحين يستمع الوالد إلى كل ما جرى لولده، يأخذ بدلتين ويتوجه بهما إلى بيت المعلم، ويهديه البدلتين مقابل العفو عن ولده، أما المعلم فيأخذ البدلتين ويذهب بهما إلى مدير المدرسة، ويخبره بما أقدم عليه والد الطالب المعاقب، فيصدر من المدير قرار بفصل ذلك الطالب من المدرسة بتهمة محاولة إفساد التعليم، ثم يرفع القضية إلى حاكم المدينة بجميع تفاصيلها، وبعد أن يتأكد حاكم المدينة من دقة المعلومات التي رفعها إليه مدير المدرسة، يتخذ قراراً بإبعاد الوالد إلى مدينة أخرى لمدة زمنية محددة، بتهمة تقديم الرشوة ومحاولة إفساد ذمة معلم.
من يقف أمام هذه الحكاية، بكل تفاصيلها، يجدها حكاية ليس من مبالغة أو تجاوز للواقع حين نصفها بأنها حكاية حضارية، بل هي درس مجيد، ليس على صعيد العملية التعليمية فحسب، وإنما على صعيد الحياة الاجتماعية وعلى صعيد الإدارة أيضاً.
لقد استحضرت هذه الحكاية، في لقاء مع أستاذ جامعي من محافظة بابل، التقيته أخيراً، فأخبرني باضطراره إلى مغادرة العراق وهو في أوج عطائه الفكري والعملي بسبب تعرضه للتهديد، والسبب في ذلك أنه حاول منع إحدى طالباته عن ممارسة الغش في الامتحان، واستمعت منه إلى ما أوجعني حقاً، عن الانهيار العلمي والأخلاقي والإداري في المؤسسات التعليمية في العراق الآن، رغم أن ما سمعته من هذا الأستاذ الهارب، ليس جديداً، بل أكاد أسمع من قبيله، كلما التقيت عراقياُ، على علاقة ما بالتعليم.
لذا أقترح تعميم هذه الحكاية الحضارية، على جميع العاملين في المجال التعليمي، بل على جميع مسؤولي النكبة الكبرى في العراق، ليس للإصلاح، فهم ضد الإصلاح، وإنما ليزدادوا جهالة وحمقا وفساداً، مستفيدين من درس الطالب الغشاش ووالده الراشي.