"حكايات بلاد الباسك الشعبية".. رحلة عبر الأساطير

الحكايات الشعبية خزان ثقافي وتراثي هائل، الكثير منها يضيع أو يتغير، ولكنها أيضا بحكم تناقلها الشفوي تسافر من مكان إلى آخر وتتغير في كل بيئة جديدة، وهذا ما يفسر تشابه الحكايات الشعبية في دول كثيرة، مثل الدول العربية. لكن ونحن نقرأ كتابا جديدا عن الحكايات الشعبية في بلاد الباسك شمال إسبانيا نكتشف أيضا مدى انتشار التأثر بين الثقافات والشعوب.
القاهرة - يأخذنا كناب "حكايات بلاد الباسك الشعبية"، بأسلوب حكائي أخاذ، إلى عالم من الخيال الذي صنعته تلك الحكايات الشعبية المدهشة التي جمع فيها الناس بإقليم الباسك في جزئه الإسباني كل تلك التقاليد الأسطورية التي اندمجت فيما بعد مع أخرى ساهمت بها الشعوب التي مرت عبر هذه الأراضي: السلتيون والرومان والقوط والعرب وجموع الحجيج الأوروبيين على اختلاف مشاربهم وأذواقهم.
الحكايات التي جمعها وأعاد صياغتها الباحث الفلكلوري الإسباني خوان كروث إغيرابيدي، وترجمها الكاتب والشاعر والمترجم والباحث العراقي عبدالهادي سعدون، تختلف طرق سردها من منطقة إلى أخرى لتتوافق مع عادات وتقاليد كل منطقة، وتلتقي -بحسب المترجم- مع الكثير من موروث منطقتنا العربية في تراثها الشعبي والفلكلوري.
كتاب “حكايات بلاد الباسك الشعبية”، الصادر عن دار الرافدين في العاصمة اللبنانية بيروت، يضم بين صفحاته منتخبات من تلك الحكايات التي جُمعت من أراضي الباسك على جانبي جبال البرانس، وأعاد تدوينها خوان كروث إغيرابيدي، وهو الأديب والمختص بالآداب الشفاهية والفلكلورية لبلاده، وقد استند فيها بشكل خاص إلى تلك الموسوعات الكبيرة التي دُونت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وهو هنا يستلها ويقدمها لنا، من بين مئات الأوراق والصفحات المليئة بالحكم والأشعار والمواقف الإنسانية، بأسلوب حكائي ممتع وبدقة وروية وإخلاص للحكاية الأولى.
وعن تجربته في جمع وإعادة سرد تلك الحكايات بأسلوب أدبي معاصر، يقول خوان كروث إغيرابيدي "في هذا الكتاب حكايات أقصها عليكم كما كنا نفعل في بيت العائلة الأول". ويتناول الكتاب الحكايات الشعبية لدى شعب الباسك، أي الباسكيين لغة وثقافة وشعباً، وهم الذين عاشوا لقرون طويلة في المناطق الشمالية الإسبانية التي ينتمي جزء كبير منها إلى جنوب شرق فرنسا أيضاً. والمعروف أنه شعب يمتد إرثه اللغوي والثقافي لقرون طويلة.
سفر الحكايات
وبحسب صفحات الكتاب، فإن لشعب الباسك وشائج وعلاقات مع ثقافات المناطق البربرية في جبال الأطلس، كما تمتد صلاتهم بالمشرق من خلال العديد من تقاليد الفلكلور والتراث الشفاهي الممثل بالأغاني والرقصات والملاحم والحكايات الشعبية.
ويرى مترجم الكتاب عبدالهادي سعدون أن تلك الحكايات بالرغم من أنها معروفة لدى الباحثين المطلعين على تراث تلك البلاد، إلا أنها جاءت بطريقة جديدة للتأكيد على حيوية الحكايات الشعبية، ومواكبة نماذجها المنتقاة التي يتضمنها الكتاب للعصر وللأجيال الشابة الجديدة، وذلك حتى لا تنقطع الصلة الممتدة إلى الباسكيين مع تراثهم العريق.
وهو ما يستعرضه ويصر عليه معد وجامع تلك الحكايات، الباحث والروائي خوان كروث إغيرابيدي في مقدمة الكتاب حيث يقول “إن الحكايات عادة تسكن العالم وتتنقل من بلد إلى آخر، ومن لغة إلى أخرى. تتحول، وتختصر وتطول وتختلط مع الحكايات الأخرى التي سبقتها أو التي تليها، كحكمة الآداب الشعبية المتوارثة لدى شعوب العالم أجمع، والباسكيون لا يختلفون عن الآخرين بذلك”.
ووفقا لمقدمة مترجم الكتاب فإن هذه الحكايات التي ينقلها لنا إغيرابيدي في هذه المجموعة الصادرة مؤخراً باللغتين الباسكية والإسبانية، يمكن أن تسافر بنا إلى أراضٍ أخرى، وعائلات أخرى، وبالتأكيد ستتحول وفقاً لعادات وأذواق من يقرأها. ربما ستتجول من منزل ريفي إلى حقل أو إلى كوخ. كما تحلق من خلال خيالك وتنبت في أرضك أينما تكون. وعلى الرغم من كل شيء، تنتهي دائماً بنهاية سعيدة كحال أغلب الحكايات الشعبية.
وتدلنا صفحات الكتاب على أن الحكايات الباسكية بطبيعة الحال، مثل شعبها، تسكن الأحلام وتتنقل من ذهن إلى آخر، يتم نسيانها ويتم تذكرها، تستحم في مياه العواطف والمشاعر؛ تنبت وتتجذر في السهول أو المناطق الجبلية. تطير من مكان إلى آخر في أجواء الخيال والذاكرة والإبداع وتحترق بنار الرغبات والكلمات. تضيع القصص في عتمة الزمن، وهي تمر عبر العصور، سواء تلك التي نتذكرها ونوثقها أو تلك التي نحكم عليها في حفرة النسيان.
وصلتنا هذه الحكايات من أراضي الباسك (بلد أو إقليم الباسك، شمال إسبانيا) جوا وبرا وبحرا. جمع إقليم الباسك قبل شعوب الهند الأوروبية التقاليد الأسطورية الأمومية، والتي اندمجت مع أخرى ساهمت بها الشعوب التي مرت عبر هذه الأراضي: السلتيون والرومان والقوط والعرب وجموع الحجيج الأوروبيين في طريقهم إلى أرض سانتياجو دي كومبوستيلا المقدسة.
إنها رحلة عبر الأساطير والتقاليد الرئيسية لبلد الباسك، من الأساطير التأسيسية أو الأماكن الغامضة، مثل أساطير الشعوب الأولى، حيث يقدم الفولكلور الباسكي شخصيات ومواقف وإعدادات متجذرة في أصولها الثقافية واللغوية. وغالبًا ما ترتبط أساطيرهم بأسماء الأماكن، وتأخذنا عبر الجبال والأنهار والكهوف في جغرافيتهم الجميلة ما يشكل سمة من سمات الحكايات الشعبية فيها.
ثقافة ولغة وشعب
الشخصيات في أغلب الحكايات الباسكية -بحسب مقدمة المترجم- موجودة داخل كل فرد. جميع الشخصيات هي جوانب من شخصيته، والتي تنضج بشق الأنفس. يعيش داخل عقل كل طفل أمير أو أميرة، ملك أو ملكة، أو ساحرة شريرة، أو جنية جميلة، أو زوجة أب أو زوج أم. يحارب قلب كل طفل الكائنات الشريرة ويطلب المساعدة من القلوب الحميدة.
يعتبر المترجم أن "حكاية: أمي قتلتني وأبي أكلني" الواردة في الكتاب هي الحكاية الأنموذج في علاقتها بالتراث العربي في حكاياته الشعبية بالحدث والعنوان نفسه، والموجودة في أغلب النماذج الشعبية العربية والمشرقية عموماً.
ويشير المترجم إلى أن أصل الباسكيين شعباً ولغة موضوع مثير للجدل مما أدى إلى ظهور العديد من الفرضيات المحتملة. إذ تعد لغة الباسك الحديثة لغة منطقة إقليم الباسك، أي بلاد البشكون الذين يسكنون شمال إسبانيا والمنطقة المجاورة جنوب غرب فرنسا. وعلى الرغم من أن اللغة محاطة باللغات الهندو أوروبية، إلا أنها لغة معزولة عنهم وكأنها نبتت ووجدت لها أرضها بمعزل عن كل التأثيرات.
◙ الكتاب يضم الحكايات التي جُمعت من أراضي الباسك على جانبي جبال البرانس وأعاد تدوينها خوان كروث إغيرابيدي
أما الفرضيات الرئيسية حول أصل الباسكيين فهي تلك النظرية السائدة التي بموجبها تشير إلى أن لغة الباسك قد تطورت على مدى آلاف السنين تماماً بين شمال شبه الجزيرة الإيبيرية وجنوب فرنسا الحالي، دون إمكانية إيجاد أي نوع من العلاقة بين لغة الباسك وغيرها من اللغات الحديثة.
ومن النظريات الجديدة تلك الصلة اللغوية البعيدة التي تم العثور على بعض مفرداتها وتعابيرها مع لغات الأمازيغ في جبال الأطلس. والقول كله للتصديق بها أو لا، فهي تؤكد إضافة إلى غموض أصل الباسك قدمهم في المنطقة ثقافة ولغة وشعبا.
يُذكر أن خوان كروث إغيرابيدي، صاحب كتاب “”حكايات بلاد الباسك الشعبية”، هو واحد من أهم كتاب الباسك في آداب الأطفال رواية وقصة وشعراً، وقد حاز الكثير من الجوائز الوطنية، وهو يكتب الرواية والقصة ومن أكثر المهتمين بتدوين الآداب الشعبية لعموم بلاد الباسك، وقد عمل أستاذاً للغة والأدب الباسكيّيْن في مدارس وجامعات بلاده، وترجمت أعمال عديدة له إلى لغات معروفة من بينها الفرنسية والإنجليزية والعربية.
أما مترجم الكتاب، الدكتور عبدالهادي سعدون، فهو كاتب وشاعر ومترجم وباحث عراقي مختص في اللغة والأدب الإسبانييْن، ولد في بغداد 1968، وغادر إلى إسبانيا منذ عام 1995 لنيل درجة الدكتوراه في الآداب والفلسفة، واستقر فيها، وصدر له العديد من المؤلفات، ونال عددا من الجوائز من بينها جائزة أنطونيو ماتشادو للإبداع الأدبى بإسبانيا، عن كتابه الشعري “دائما”، ووسام الاستحقاق من المنتدى العربي – الإسباني الذي يمنحه الصندوق الشعري العالمي (FPI) سنوياً للشخصيات المؤثرة في إسبانيا من غير الإسبانيين، وجائزة مدينة سلمنكا الإسبانية عن مجمل أعماله الأدبية.