حسين كاكائي ينسج سجادته أملا في لحظة الافتتان الكبرى

استرداد للماضي غير واع أساسه الاختلاف والتجديد.
الاثنين 2022/03/14
رؤية جديدة للإبداع

ينشغل الفنان التشكيلي الكردي - العراقي حسين كاكائي بالبحث عن مفهوم جديد للعمل المبدع و للعملية الإبداعية عله يرسخ من ورائه رؤيته لكل ما يراه ويستوحيه ويعيد إنتاجه للعالم في شكل لوحات تشكيلية تسترد الكثير من ماضي كاكائي.

قبل عدة سنوات كتبت عن جزئيّة من تجربة الفنان التشكيلي الكردي - العراقي حسين كاكائي (1959 - كركوك)، وأشرت حينها إلى أنه من الأسماء المهمة في المشهد التشكيلي الكردستاني والعراقي وأنه من الفاعلين في تنشيط دورته الدموية، وهو كذلك فعلاً، ومازال محافظاً على تلك الحيوية، ومسيرته الفنية التي تمتد لأربعة عقود وربما أكثر تتحدث عنه ولا تحتاج إلى من يكشف عنها، فبين معرضه الفردي الأول في قاعة كركوك للفن المعاصر عام 1982 ومعرضه الأخير في مارس 2022 في ماريكرلي - غينت ببلجيكا أربعون عاماً مليئة بينابيعه التي تدفقت بالخصب والجمال والحب والحياة.

وتبدو مشكلة علاقة الفنان بالوجود وكأنها أسطورة تقضّ مضجعه بما يبرّح فيها من شوق وحنين، وترسم مفردات هذه العلاقة وهذا الوجود بكل وفاء مهما حضرت الأضداد والتنابذ والجفاء، ويبقى فيها من اللحظات ما يتشابك ويتقاطع وما يجعله يعود إليها كلما تطلبت حاجاته التي لا يمكن أن تختزل حتى لا تقصى أبعادها ولا يلغى طابعها الفني، وكأنها تلح عليه في حملها من صميمها حتى تكون مرجعيته فيما بعد، مرجعيته التي ستعلن الحقيقة التي يبحث عنها.

ويشرع كاكائي في إنجاز نصوصه غير المدجنة وغير القابلة للاحتواء التام لما تحمله من الطيب، أو لما تطارد من الفتنة حتى تبرز قيمها الجمالية والنفعية معا. ومن منطلق الإيمان بأن مملكة الفن لا مكر فيها ولا شرور يجنح بخطابه نحو إنجاز ما يخدم قيمه تلك، إن كانت قيم الجماعة أو قيمه الخاصة التي تحثه على الوعي باللون والخط وبأنهما مهما كانت لهما من مزالق فهو القادر على إيقاظ الطيب منهما، ويذهب به في النفس البسيط المؤمن بالإنسان والحياة مروضاً أهواءها ورغائبها بالجزم أن رؤيته البيانية التي يديرها ويدير تصوراتها تندس في صميم خطابه.

وهو يعلن أن المسألة هنا في غاية الدقة ولا بد أن تمثلها مفارقات تضمن إمكانية الشروع الفعلي في بنائها، وكذلك في بناء ما لم يفكر فيه وما لم يدرك.

التشكيلي حسين كاكائي ينظر إلى المنجز الفني بوصفه استردادا غير واع لماء بئر كان قد جف منذ عقود
التشكيلي حسين كاكائي ينظر إلى المنجز الفني بوصفه استردادا غير واع لماء بئر كان قد جف منذ عقود

ويفطن كاكائي إلى أن ما يمارسه على نصه بوصفه فعل إشهاد، لا كنوع من احتوائه بل كانخراط في مفاصله بما في ذلك زمنه الذي به يحيا، أو ما يسمى بزمن الخلق، زمن الإبداع والمكاشفة، وتبعاً لذلك بوصفه كائنا اجتماعيا قادرا على الإدراك للإنتاج في حقوله، فمن الطبيعي أن ينشغل بكيفيات بناء رموزه، وبكيفيات تشكلها ونهوضها، والحال أنه قادر على بناء ذلك حتى يضمن بقاءه ومقدرته على الفعل بمشهده الذي سينتقل آلياً إلى الفعل بمتلقيه.

وبذلك يتحول الفعل إلى المواجهة لتوسيع دائرة المباح رغم وجود حرص على عدم نقل ما يجري، بل الاكتفاء بإرسال الإشارات عنه وترك التقاطها علينا، وهذا في حد ذاته ضوء لحالة وهي في أبهى بقائها وحضورها ضوء للحظة التقاطع الخفي بين الواقع واللاواقع، ضوء للحظة المكاشفة بامتياز.

لذلك جاءت تجربة الفنان لتبديل مفهوم العمل المنجز ووظيفته وطرائق إنجازه، فهو يحاول جاهداً عدم التملص مما قد يعترضه، وله مقدرة هائلة على الاندساس في منجزه الجديد، ويملك من النهوض ما يجعل دعوته تلك مفهوما لمعالم ينشدها دون أن يعيها تماما، لكنه على دراية تامة بمنجزه الفني بوصفه فعل تأصيل متمكن من إرسائه، وفيه تتنامى شعرية ألوانه بلهيبها ومحاكاتها إلى جانب بنائه الشكلي مجسداً ذلك في تلك المكونات التي تسهم في إدراج تلك الشعرية ضمن دائرة الخلق والإبداع، وضمن عملية الانجذاب نحو استكشافات وما تيسر منها في الحضور بدقائقها وقوانينها الكبرى، وبكل ما يطال حركيتها وإن بدت بالمقارنة مع المنجز النظري أكثر استقراء، وأكثر أثراً وإثراء في نفس المتلقي وهو يصوغها بالشكل الذي يراه، وبالشكل الذي يرغب فيه.

وقدم التشكيلي حسين كاكائي العشرات من المعارض الفردية والجماعية على امتداد الزمن، في مجمل المدن البلجيكية حيث يقيم منذ عام 1988، وفي كردستان والعراق وخارجهما، فأربعون عاماً وهو يتساءل عن لحظة الافتتان القصوى، عن الفعل بما خفي لا بما ظهر، حتى بات مدمناً على الفن ونزعاته، فكل الأدوية والعقاقير لن تكون مجدية في علاجه، مدمن وسعيد بإدمانه إلى حد العشق، حتى أنه قال مرة في أحد لقاءاته القليلة “الفن عشق يستحق الكثير فدونه لا يمكنني أن أتصور عيشي كيف سيكون.. ولغة الفن كالابتسامة لا تحتاج إلى ترجمان”، ففنان يعيش بهذه النمطية العذبة وبهذه الشفافية التي بها يرصد ما يزرع وما لا يدركه كيف به أن يكون، مهما كانت الأبعاد حاشدة في منجزه فهي وقوع على مكوناته ومقترحاته الجمالية.

وكاكائي ينظر إلى المنجز الفني بوصفه استردادا غير واع لماء بئر كان قد جف منذ عقود، وبمعرفة دقيقة بمجمل ما يمكن أن يفكر فيه، وفي ضوء التقاطه لأسرار شعريتها وهي تشير إلى خباياها في لحظة الافتتان تلك التي أشرنا إليها أعلاه، يلجأ إلى ذات البئر ليروي ظمأه، فهو على يقين بأن المرء لا يمكن أن يرتوي من مناهل الآخرين، وهذا ما يجعله يستدرج متلقيه إلى آباره هو، وهي آبار في حالة من التدفق الدائم والزلال وفي حالة لا يمكن أن تقوض إلا بما تفيض به من دلالات تجنح بنا كمتلقين نحو تمييز معانيها المختلفة، حالة تجعله غير عاجز عن بلوغ الذرى التي يحلم بأن يرتادها كل فنان يتقن فن الإصغاء واقتفاء أثره.

تقاطع خفي بين الواقع واللاواقع
تقاطع خفي بين الواقع واللاواقع

وكاكائي بارع في ذلك وماهر، يتقدم نحوها حتى تتوالد الصور التي يديرها قاصداً الوصول، مستنهضا متلقيه المفترض معه لا كنوع من التفرد فحسب، بل كون تجربته تحمل مراجعها في ذاتها وتحيلها إلى ذاتها، وهذا يعني أنها حين تتشكل تنتشل الموجودات من هول اللامعنى، وهذا لا ينفي وجود تلك الكآبة التي تلف نوحه وما يومئ به، وهذا طريق إلى دلالاته ورموزه التي يستلها من صميمه، فهو ليس بحاجة إلى من يسنده من الخارج ففي دواخله ما يفعل ذلك وما يدفعه نحو تلك الذرى التي ينشدها.

ويذكر أن حسين كاكائي فنان تشكيلي وخطاط، ومختص في فن الغرافيك، وهو خريج أكاديمية الفنون الجميلة، فرع الغرافيك الحر بلجيكا 2009، ولهذا كان من البداهة أن تكون رؤيته البيانية التي داخلت خطابه الفني متكتمة غاية التكتم لا كظاهرة بل ما يفرض عليه من غايات عظيمة بها يتعاطى مع الآخرين.

ويجند الفنان جهوده للعمل في ميدانه الخاص دون أن تعصف بشاعرية غاياته، ويبقى فيها ما يوهم بأنها لم تضع ولم تبدل من طرائق حضورها، بل تتشكل ومقاصدها وكأنها الحكاية ذاتها، الحكاية التي لا تفي بمتطلبات التحريض ولا بالتقاط ما تتجلى فيها من ضيم إيقاعات متعارف عليها، بل للإبانة والحث وما تتطلبه من المكونات التي تلح على ضرورة الاعتناء بها، إن كان لمحاً أو إشارة أو إيماءة حتى تحقق علامات النهوض على المغايرة والاختلاف والتجديد، والحال أنها أشبه بسراج بيد راع يمضي به في ليل قاتم وطويل باحثاً عن طريق لا يتيه فيه، عن طريق يوصله هو وقطيعه إلى ما يباح له وما لا يفصله عن المخلوقات الحية الأخرى، ولا يئن أبداً حاضراً أو غائبا.

وقضية إنتاج مفهوم جديد للعمل المبدع وللعملية الإبداعية هي شاغله وهي التي ترسخ رؤيته ورؤياه لكل ما يقطفه وما يثبته هو بنفسه وما قدمه في معرضه المشترك الأخير أو ما سماه باحتفالية ثقافية نظمتها مؤسسة ميزوبوتاميا بدولة بلجيكا بالتعاون مع محافظة خينت يوم الخامس من مارس الجاري حين نسج سجادته التي سماها “سجادة كركوك” بنحو ستين عملا خطيا فيها قدم نخبة من آهاته وما يتجلى فيها من عبارات ملونة لجلال الدين الرومي (1207 - 1273) تحتاج كل منها إلى فهم خاص محاولاً بها مجابهة حقائق غائبة، وهذا في حد ذاته ستؤرخ له سنين طويلة .

15