حسونة المصباحي.. الروائي الذي لم أستطع عليه صبرا

كاتب حمل حكايات التونسيين وهمومهم معه فكان صوتهم المسافر.
الاثنين 2025/06/09
بين عيدين.. رحلة مع كاتب مختلف

ودع التونسيون منذ أيام الروائي حسونة المصباحي، الذي كرس حياته كلها للأدب والترحال فيه وبه، حاملا هموم التونسيين وأصواتهم وحيواتهم أينما كتب وكيفما كتب، رواياته وقصصه وحتى مقالاته ناهيك عن ترجماته تكشف عن مثقف تنويري وكاتب آثر أن يكون ابن بيئته بكل تقلباتها وطباعها، بينما كانت حياته رواية كتبها بجرأة ملهمة وبروح مثقف أخلص حتى النهاية للأدب.

حدث ذلك منذ ربع قرن، في أول يوم من أيام عيد الأضحى، وبعد ليلة أمضيتها على صوت ثغاء الخراف، كان ذلك في السابع من ديسمبر عام 2000. خرجت إلى شرفة الغرفة التي أقيم فيها بنزل الليدو في بلدة حلق الوادي، على أطراف العاصمة تونس، أرتجف من ريح باردة قادمة من البحر، أراقب الميناء والشاطئ الذي خلا تماما من البشر. سيطرت عليّ حالة من الكآبة والشعور بالوحدة زادت من حدتها أصوات الخراف التي أخافتها رائحة الدماء.

كل ما كنت أعرفه عن مدينة حلق الوادي حينها، هو ما جاء في قصيدة “بساط الريح” للشاعر التونسي الكبير محمود بيرم التونسي، والتي لحنها وغناها فريد الأطرش، وكلاهما من أسرة هاجرت من بلدها وأقامت في أم الدنيا، مصر. وها أنا، بعد أكثر من 45 عاما كمهاجر، أمضيت ربع قرن منها في تونس، ينتهي بي المطاف في شارع يحمل اسم محمود بيرم التونسي.

وجدان التونسيين

بالنسبة إلى حسونة تونس ليست مجرد جغرافيا بل هي كيان من لحم ودم وتاريخ وصراعات ونجاحات وفشل

أعود إلى السابع من ديسمبر عام 2000، حيث أمضيت يومي حبيسا داخل غرفة النزل، أتجنب ما أمكنني أصوات الخراف ورائحة الدم، إلى أن جاءني اتصال هاتفي من صديق جزائري، هو المفكر والكاتب والشاعر أزراج عمر، عرض عليّ أن أنضم إليه في جلسة تجمع نخبة من المثقفين وأهل الفن، في منزل الشاعر التونسي الصغير أولاد أحمد، الذي لم أكن أعرف عنه حينها أكثر من اسمه، وبيت شعري يقول فيه “أحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد”.

ضمت الجلسة كلّا من الصغير أولاد أحمد، حسونة المصباحي، المنصف المزغني، أزراج عمر، الفنان التشكيلي نجيب بلخوجة.. وآخرين لا تسعفني ذاكرتي الضعيفة على استحضار أسمائهم. اختلطت الجلسة برائحة الشواء والنبيذ التونسي ودخان السجائر، وشكلت فاتحة مبكرة للتعرف على الشخصية التونسية عن قرب.

وما هي سوى دقائق حتى شعرت أنني أعرف المجموعة منذ سنوات، رغم أن الشخص الوحيد الذي أعرفه مسبقا كان أزراج عمر. لقد نجحوا في إخراجي من الشرنقة التي يُحيط بها الشرقي نفسه عادة؛ لا مجاملات ولا نفاق. فالتونسي، على عكس المشرقي، لا يجيد لغة المجاملة. التونسي، وقد سبق لي أن قلتها في مناسبة أخرى، عندما يشتمك، فهو يحبك. لم تكن المجموعة تحتاج إلى الشراب لترتفع الأصوات وتتبادل الشتائم.

خرجت من السهرة مع بزوغ الفجر، برفقة حسونة المصباحي، وأنا أشعر أنني اكتشفت كنزا أدبيا ثمينا، لا يقل أهمية عن نجيب محفوظ وحنا مينة، قبل أن أقرأ أيا من أعماله.

لم أعلم يومها أنني تبادلت رقم الهاتف مع حسونة، الذي اتصل بي بعد أقل من 48 ساعة، يدعوني إلى إفطار في نهج القاهرة. وهو نهج لا يحمل من مصر سوى الاسم، إنه زقاق صغير متفرع من الشارع الرئيسي في العاصمة تونس، تحف به على الجانبين مطاعم شعبية تشتهر بالمطبخ الصفاقسي، نسبة إلى مدينة صفاقس. حينها كانت الوجبة المكونة من ثلاثة أطباق لا تتجاوز خمسة دنانير.

k

لم أمانع بعد أن انتهينا من التهام الطعام، دفع قيمة الفاتورة، بعد أن تلكأ حسونة في سحب يده من جيبه بالمبلغ المطلوب. في الحقيقة، كنت ممتنا له لأنه عرفني على الطعام التونسي. خرجنا من مطعم الصفاقسي بنهج القاهرة، واتجهنا إلى شارع قريب، هو شارع مارسيليا، الشهير بحاناته ومطاعمه، لنلج إلى بار ومطعم يعرف باسم “بوعبانة”.

لم يكن فضاء “بوعبانة” بارا بالمعنى المتعارف عليه، بل فضاء يلتقي فيه المثقفون التونسيون، والفنانون التشكيليون، حيث تُعرض فيه أعمالهم الفنية. وقد سُمّي بوعبانة نسبة إلى الفنان التشكيلي التونسي الحبيب بوعبانة، الذي وُلد في السابع عشر من مارس 1942 في مدينة المكنين.

وللمكنين تاريخ عريق، تعاقبت عليها حضارات مختلفة، من البونية والرومانية إلى الإسلامية، وتُعتبر من أهم مراكز إنتاج الفخار في تونس.

الحبيب بوعبانة لم يكن مجرد فنان تشكيلي، بل كان تجسيدا حيا للإبداع الحر والرفض المستمر للقوالب التقليدية التي تؤطر الفنان داخل جماعة أو تيار محدد. عاش فنه بحرية مطلقة، عبر عنه بالألوان والخطوط كما بالشعر والمقالات، فيه تمتزج الحكمة بالكوابيس والغضب.

كان تجوله الليلي في شوارع تونس جزءًا من تلك الرحلة الإبداعية، يُرافقه هدير البحر، وتتآلف معه قطط الشوارع الضالة، وتناجيه عصافير شارع الحبيب بورقيبة قبل أن تأوي إلى أعشاشها.

وكما عالم حسونة المصباحي، عالم الحبيب بوعبانة لم يكن مجرد انعكاس للتراث الفلكلوري، بل صورة نابضة لتونس الحقيقية، صورة تنشد الحرية والجمال وتلتقط اللحظات العابرة التي تصوغ وجدان التونسيين، في أفراحهم وانكساراتهم، في أحلامهم البسيطة ونضالهم المستمر.

في لوحاته، كانت تونس حاضرة بكل تفاصيلها، في الألوان المحلية، في وجوه الناس، في الأزقة والمقاهي والشوارع النابضة بالحياة. كان يحلم بثورة شعبية تُنصف المهمشين، ويضع بصمته الخاصة التي تجعل من الفن أداة للتعبير والاحتجاج والمقاومة، وليس مجرد صورة للتأمل.

تجربة ملهمة

h

في الحقيقة، لا يمكنك أن تقول إنك تعرف تونس وتعرف حركتها الفنية والثقافية إن لم تمر على فضاء بوعبانة وتتردد عليه، كما لا يمكنك أن تقول إنك تعرف الشخصية التونسية ما لم ترافق حسونة المصباحي.

اسمعوا ما قال عنه الأديب المصري يوسف إدريس “يكفي أن تقرأ قصة واحدة لحسونة المصباحي لكي تعرف كيف يعيش الإنسان التونسي، وكيف يفكر، وما هي حكاياته وأساطيره الخاصة، كما لو أنك عشت في تونس عشرات السنين.“

هذا إذا قرأت رواية واحدة لحسونة المصباحي، كما قال يوسف إدريس، ما بالك إذا رافقته على مدار 15 عاما؟

خلال هذه السنوات، تعرفت على تونس الحقيقية، تعرفت عليها من كاتب روائي غير عادي. وأول ما تعرفت عليه كان القيروان وريفها.

كان باستطاعتي أن أكتفي بعبور تونس كما يعبرها أي سائح لا يحتفظ في ذاكرته سوى بلقطات كروت البوستال إلا أن حسونة فتح عيني على العمق التونسي، تماما كما في رواياته. معه تنقلت بين الحمامات، سوسة، المهدية، القيروان، حلق الوادي، سيدي بوسعيد، والشمال الغربي بكل تفاصيله. ولن أنسى بالطبع تبرسق وتستور، البلدتين اللتين أسسهما العرب الأندلسيون العائدون من الأندلس بعد أن غادرها أبوعبدالله محمد الثاني عشر، المعروف باسم أبوعبدالله الصغير، آخر حكام غرناطة.

الكاتب استخدم السرد الواقعي الممزوج بالرمزية كأسلوب مميز ليناقش قضايا اجتماعية وسياسية تعكس هموم التونسيين

استخدم حسونة المصباحي السرد الواقعي الممزوج بالرمزية كأسلوب مميز، وناقش قضايا اجتماعية وسياسية تعكس هموم التونسيين. تميزت رواياته بتصويره الدقيق للمجتمع من خلال شخصياته متعددة الأبعاد ونبرته النقدية، مما جعله رمزا للإبداع والتجديد الأدبي.

ورغم أنه أمضى أكثر من عشرين عاما في ألمانيا، مدينة ميونخ تحديدا، إلا أن تأثره بالثقافة التونسية المحلية والتجارب الحياتية التي عاشها ظل حاضرا في كل أعماله. وفي الوقت ذاته، ساهمت تلك التجربة في نجاحه ببناء جسور تربط بين التراث والحداثة، وهي تجربة ألهمت جيلا من المثقفين الساعين للتحرر الفكري.

بالنسبة إلى حسونة، لم تكن تونس مجرد جغرافيا، بل كانت كيانا من لحم ودم، كانت تاريخا وصراعات، نجاحات وفشلا. والأهم، أنّ مكانتها في القلب لا تضاهيها مكانة بلد آخر، لذلك اختار أن يلفظ أنفاسه الأخيرة فيها، ويا للغرابة قبل يوم على عيد الأضحى، وكأنما أراد أن يذكرني باللقاء الذي جمعنا في منزل شاعر تونس الصغير أولاد أحمد في أول يوم من أيام عيد الأضحى قبل 25 عاما.

وداعا حسونة المصباحي. وداعا الكاتب الذي لم أستطع عليه صبرا.

13