حسن حمام يرسم تغريبة سورية رقاوية منفتحة على الخيال

لم ينفصل حسن حمام عن الفرات بل كان ابنه الوفي الذي يروي بريشته وألوانه سردية النهر وأبنائه، مضفيا عليها بعض الأمل والحياة، مستعيدا ذكريات الطفولة التي يستنجد بها لمواجهة الألم والاضطهاد وبشاعة الحاضر، فيبدو وكأنه يرسم لنا ملحمة لونية مثيرة للعواطف.
تشكل القراءة التالية محاولة للوقوف على تجربة الفنان التشكيلي والنحات السوري حسن حمام (الرقة 1973)، التجربة التي تمتد لربع قرن وربما أكثر بقليل، وتتجلى هذه القراءة في سعة الدائرة التي تحاول الأخذ منها وبها في سبيل إنتاج رؤية لا تحصر مهمتها في وظيفة ساعي البريد، بل بما يمكن النظر إليها بوصفها أداة تعبيرية وتواصلية مع الآخرين، أو حيثية من الحيثيات التي تنطلق من الذات أولا، وتشيد عليها فلسفة الإنسان ورؤاه في علاقاته بذاته أولا، وبالوجود ثانيا، لتجيب على أبرز التساؤلات الدائرة حولها.
وتبقى هذه الرؤية في حالة السريان لا في الممكنات فحسب بل في كسوة تلك الممكنات أيضا التي ترتبط ببعضها البعض ربطا حكميا ينتظم بعناية دائمة، فالموجودات إن كان بعضها معلولا فستصدر عنه معلولات أخرى، وإن كان بعضها الآخر فيضا من الماهيات التي توحي بالميل نحو تجليات متفاوتة قاصدة معلولها، وملتفتة إلى علو ذاتها عن ذات المعلول، فلا محال من أنها مريدة ذاتها بعينها، هي كمال المعلول وتمامه، أو بلغة أخرى لا بد من ربط حقيقي بين المعلول والعلة الغائبة، فلو لم يكن بينهما هذا الارتباط الذي يحتفظ بالموجودات الجمالية ككنوز مخفية لما كان حضور الذات هو المقام المنزه عن كل التعيينات.
من هنا فإن الأمر في المنظومة نفسها لا يعتبر بعدا تراتبيا بين الأشياء في سياق العلاقة المتبادلة فيما بينها أولا، وبينها وبين تحديداتها الداخلية ثانيا، وإنما هو بعد زمكاني يستبطن معاني وأسرارا ودلالات من الممكن إحالتها على آفاق جمالية معرفية تبصر مستويات الألوان كمفردات بصرية تشكل جملة الحراك الداخلي بين بعضها البعض من جهة، وبينها وبين الذات المعتبرة والمتبصرة من جهة ثانية.
في ضوء هذه الفكرة ينطلق حسن حمام في عدد لا يحصى من الاتجاهات بشكل تعيينات ملموسة، كل منها أشبه بمرآة يشف منها في كل وضع من أوضاعها، وفي كل حركة من حركاتها، وفي كل شكل أو صورة من أشكالها أو صورها، معنى أو دلالة أو مستوى من مستويات حركات الفعل والانفعال، تنفتح على بعضها البعض كمقامات لحالات وأشكال تستنير بكل ما يرمز إليها، إشارة إلى كل ما تتكشف عنه وما تشير إليه.
كل شكل حسي أو صورة أو فعل من مشهده البصري هو علامة على مقام نفسي أو مستوى جمالي يشف عنه، وهو مدخله ومرآته وطريقة تبصره ونفاذه إلى الخفي المستتر، بدلالات أشكاله ومعانيها ومقاصدها وأسرارها، حتى يذهب بها إلى مداها الأرحب، والأبعد غورا والأعمق مدى، إلى البواطن التي ستكشف له ولنا كل منازلها.
حسن حمام يلح في تقصي تلك البواطن مثل إلحاحه على تجنب الإبهام الواقعي في أدائه كنوع من سعيه إلى التذويب الفني، والحقيقة المنشودة لديه ليست الموضوع الوضعي الفكري الذي قد يحمله لعمله الفني، بل هي العمل الفني نفسه كنص جمالي يقوم أساسا على عدم التحديد المكاني، وعلى عدم التحديد الزماني، أو بعبارة أدق فإن أهمية وحقيقة هذه الأعمال الفنية التي أنتجها حمام لا تكمنان في مواضيعها بقدر ما تكمنان في الأعمال الفنية ذاتها.
هذه ليست إلا إشارة إلى قدرته على المزج بينه ككائن إنساني بكامل أحاسيسه ومشاعره، وبين أعماله الفنية، فهو يرويها بأصابعه النازفة المغروسة بها، يجعلها تنبئك بأنك أمام مهمة ليست مستحيلة، عليك أن تجتاز عتباتها أولا مهما كانت تلك العتبات عالية وشاهقة، ثم تبحث عن فجوة فيها لتلج منها نحو الباب، حينها قد تضع إصبعك على السر كله أو على بعضه على الأقل، لتكون أمام انفتاح آخر وعلى الآخر، حيث الشاعرية القاسية التي تحمل كل النقائض، كل المفارقات من ألم الحياة إلى أملها، من سعة الحياة إلى ضيقها، دون أن تحتاج إلى أي دليل.
ها هي الأعمال الفنية تتابع داخلك لتثبت شيئا واحدا هو أنك قادر على التقاط تمزقاتها الظاهرة منها والباطنة، فأنت هنا تحتاج إلى لغة تتنفس بها حتى تفصح لك عن مفاتنها التي هي مزيج من مقامات لونية منسجمة، تراعي النسق الذي يوسع الآفاق، لا التي يضيقها، وهذا يقتضي منك كمتلق أن تجمع كل ما يتشظى أمام رؤياك، وعليك كحسن حمام الفنان المنتج أن تمنع أي شرخ في تكويناتك، حتى وإن احتاج الأمر منك أن تقفز إلى ضفة أخرى، وهذا أشبه بتصعيد درامي يؤكد بؤر المغزى، وعدم فقدان المعالم الخاصة به، فهو يشق طريقه بإخلاص واجتهاد مؤكدا أن هذا الإخلاص و هذا الاجتهاد يكمنان في كل من أسلوبه ومادته.
إنه لا يمرر رسائل خاصة عبر لوحاته فحسب، بل يحيل متلقيه إلى الدهشة الأولى، دهشة الفرح الأول التي ستكون بمثابة إعادة إنتاج للتعبير غير السائد، بلغتها وحكاياتها، بمقولاتها ومؤثراتها، محاولا الدنو من عوالمها ما أمكن وآخذا بعين الاعتبار الانفتاح على الآخر المختلف تماما، ليقول بلغة أخرى، هي لغته الخاصة التي يرسم بها مفرداته، إذ له هوس خاص بالاختلاف وبكل ما يميزه عن غيره، وهو لا يؤطر رؤيته السردية أبدا، فهناك دائما ما يدفعه إلى القيام بخلق أشكال فيها من التداخل السيميائي ما يلفت نظرنا ونحن نغوص في ثنايا أعماله.
هناك على امتداد عملية الخلق ما يستلهمه حمام، وعلى نحو أخص تلك التأثيرات التاريخية والاجتماعية والإنسانية التي تشكل علاقاته بذاته وبهويته، وهذا ما يستثمره المبدعون الحقيقيون في خلق جديد يتجاوز سابقه ويتفوق عليه، وإذا كان هذا ما يعلنه حمام بوصفه حقيقة يمضي إليها، يتعين عليه إقرارها ببساطة، ويبدو أنه يهتم بذلك، إن كان بخصوصية أسلوبية وبنائية أو بموضوعاته الإنسانية بكل أوجاعها وتعبها ومعاناتها، فلا يصعب عليه أن يفجرها جماليا.
من جهة أخرى لا يزال حسن حمام يسعى في هذا الاتجاه حينا، وحينا آخر يبحث عن آفاق جديدة بنسق جديد، ليبث تصوراته بكل تفاصيلها وبكل موسيقاها، فهو غير عاجز عن البيان والإفصاح في هذا الحقل، بل يكسيها بفهمه وبمقارباته الدلالية المتخفية، بلغته بكل أنغامها وأصواتها، وبهويته بكل ما توحي بتوجهها العاطفي والفكري، فهو يحرك فضاءاته، ويفتت عليها ألوانه كأنه يفتت قطعة موسيقية إلى معانيها دون حصرها، ولا يعني له ذلك القيام بنقل تلك الفضاءات من محتوى إلى آخر.
ومن أفق معرفي يتساءل هو مع متلقيه هل بإمكانهما أن يستوعبا مقولاتها إلى أفق جمالي له الدور الحاسم في تشكيل الذوق البصري لذلك المتلقي، فهو هنا لا يخلط الأوراق مهما بدت له كلاسيكيتها، ولا يكتفي باستيعاب الأشياء ومظاهرها، فهو يجمع بين الرؤى المختلفة، بين اللغة المحايدة واللغة الشعرية المتدفقة دون أن يتورط في الوقوع بين هواجسهما، فهو في النتيجة ينشئ وينمي ويطور مشهده البصري التجريبي من بداية سردياته إلى منتهاها، مركزا على مفردات تسترعي انتباهه وانتباهنا أيضا، إن كانت في ألوانها أو في أشكالها أو في هندسة مساحاتها أو في اختلاف تكويناتها.
والتجريب إذا كان بمعناه الواسع لا يخص فنانا بعينه، ولا مرحلة زمنية بعينها، فهو سعي دائم ومتواصل نحو الكشف والابتكار، يرسم صورا مختلفة هي مقومات صارخة لمدوناته التجريبية التي يعتمدها، والتي تتبلور وهي تقدم نفسها. ونستشف من ذلك، ومن توزيع نصوص الفنان وتقطعها التساؤل التالي: ما أثر هذا التجريب عليه وعلى التداخل الحاصل بين تصنيفاته؟ وما هو نظام القراءة الذي سيشفع لنصوصه ونحن نقترب منها؟
الغاية هنا هي إيجاد حوار فيما بين أعماله وبين الوسائط كلها، فكل نتيجة ستكون هي الوسيلة لإيصال دلالاتها التي تستوجب بالضرورة تكثيفها بصريا.
سبق أن قلت عدة مرات إن أبناء الفرات لهم ما يميزهم، والمبدعون منهم على نحو خاص والتشكيليون على نحو أخص، يلف المكان بهم، يساعدهم على إثارة الخيال واستعادة الذكريات بتفاصيلها، والقبض على مساءات فيها يمشط القمر روحه على مرآة الفرات، حاملا باقة ورد لعاشقة تفترش الضفة الثانية لهذا النهر العذب والمثير، الذي يختلس منه العشاق والفنانون والشعراء رقته وزرقته وصفاء قلبه.
حسن حمام ابن الفرات، يعوم فيه، يستنطقه قبل أن يمسكه من سريرته، قبل أن يتمكن منه ويتسلل إلى نفسيته النقية جدا، فينقل مشاعره ويكشف عن تفاصيل صغيرة من حياته تعيده إلى زمن الطفولة. هذه اللحظات الاستذكارية تعد محاولة للتخلص من الواقع المؤلم الذي بات يطوق البلاد، حيث يلجأ حمام إلى ذاكرته البعيدة نوعا ما، ليحتمي بدفئها حين يجد نفسه مع الآخرين من أبناء جلدته محاطين بالقهر والاضطهاد والظلم.
ظلمة الحياة والخراب الذي يلف المكان يساعدان الفنان على إثارة خياله واستنطاق اللحظات بلمسات جديدة تعيدها إلى حاضرها، وينزع الحجاب عنها، يحررها تماما. هو على دراية مطلقة بأن الحرية مقدسة أينما كانت وغالية جدا، وعند المبدعين على نحو أكثر، ينحاز إليها فناننا حسن حمام، حريصا على مظاهرها، شاقا الطريق نحو الآفاق الواسعة، متحديا الصعوبات التي قد تطرح وتلد هنا وهناك، فهو يعمل على إقحام هويته الفنية في فعله الإبداعي، مدافعا بها عن أوجاعه وأوجاع ناسه وأوجاع المكان الذي ينتمي إليه.
هي تغريبة سورية، تغريبة رقاوية يخلص لها حسن حمام بألوانه وريشته، بأزميله وحجره، بمشاعره وأحاسيسه، يطرحها بقدرته العالية على الانفعال بالمتخيل والمجنح، يطرحها في علاقتها بالتحديات التوصيفية التي يمكنه الوصول بها إلى أسئلة تبحث عن أجوبتها في تحليل أثرها الممزوج مزجا إيقاعيا بإمكاناته الإجرائية، التي ستوضح بدورها الأثر الذي سيخلفه منجزه الإبداعي في النفس الذواقة والتائقة دوما للاستمتاع بقدراته الفنية المتجاوزة لذاتها، لأنها تتلمس من عدة أنظمة سيميائية تختلف في طرائق الوصول.
حمام يتتبع الحدث لا ليخاطب متلقيه فحسب بل لتحويله إلى مشهد فني بلغته الخاصة التي تظهر في تواؤم متحيز ومتميز مع تصويراته المتلاحقة الشغوفة بالتخيل لديه.