حزب الاستماع

اليمين المتطرف صار يعطي الانطباع بأنه التيار الوحيد الذي يستمع للناخب. فالناس لا يصوتون له لعقله وفكره، بل يصوتون لأذنه.
الخميس 2024/07/04
يستمع إلى قلق الناس على مصائرهم

لدي مقترح سياسي. فطالما السياسة في العالم بشكل عام والغرب بشكل خاص تتقلب ولا مستقر لها، لماذا لا نعيد التفكير بطريقة النظر إلى السياسة، أو النظر إلى الأحزاب السياسية والسياسيين.

خلال الفترة التي تستطيع ذاكرتي استرجاعها، أي منذ أواخر السبعينات وحتى اليوم، شهدت تقلبات السياسة، بين ليبرالية وشيوعية، ويمين ويسار، ودينية وقومية، وقومية ووطنية، وشمولية وديمقراطية، رأسمالية واشتراكية، ووصلنا مؤخرا إلى شعبوية ونخبوية. كل فئة سياسية أو تيار أو توجه من هذه، كانت لديه حظوظه في النجاح والفشل، الاستمرارية والانقطاع، الترسخ والاختفاء، التمدد والانكماش، التوسع بين العوالم المختلفة والتركيز بما يشبه البؤرة.

هذه تقلبات كبرى ساعد التناحر أو الاختلاف على الإبقاء عليها كما ساعدت عوامل قد تبدو بعيدة عن المنطق في انطلاق بداياتها. تخيل هل كان للمشاريع الدينية السياسية أن تنجح لولا أموال النفط؟ هل كانت فكرة القرية العالمية سببا لتقارب الناس أم تناحرهم سياسيا؟ ما هي آخر أخبار العولمة الاقتصادية وتأثيرها على العدالة الاجتماعية بين الشعوب والدول؟ هل يوم شاهدنا الإنترنت وطريقة انتشارها كنا سنتخيل أنها ستصنع الشعبوية؟

يتعقد المشهد عندما تختلط المعطيات أعلاه ببعضها. شهدنا سياسيين ينوعون في أفكارهم بين متناقضات، ويخترعون نظرياتهم الخاصة بالسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع مع تحقيق نتائج تصل إلى حد الهزل.

أريد أن أدلو بدلوي بأن يولد تيار سياسي يقوم على الاستماع. أي نعيد تصنيف الأحزاب والحكومات والسياسيين إلى من يسمع ولا يسمع. هذا التصنيف – برأيي على الأقل – مهم. ضع جانبا الحزب الديني مثلا الذي لا يسمعك لأنه يتحدث باسم السماء، أو الحزب السلطوي الذي يتحدث إلى فصيل أو فرقة عسكرية وليس شعبا، أو الشخصية الشعبوية التي تعتقد أنها المنقذ. أنظر إلى تعثر ما يعد أرقى المنظومات السياسية التي صنعتها البشرية لنفسها، أي الديمقراطية الليبرالية. فبعد أن يذهب الناخب إلى صندوق الاقتراع ليختار من يحكمه، رئيسا أو حزبا يشكل حكومة، يكون من السهل ملاحظة أن هذا الرئيس أو تلك الحكومة تتوقف عن الاستماع إلى حين العودة ثانية إلى صناديق الاقتراع. التفويض الديمقراطي يبدو تفويضا لسلطة تعتقد أنها على حق، وهذا ما يجعلها تتعثر بعد فترة وتنتهي بالبديل.

اليوم يعتقد كثيرون أن المهاجرين في قلب التحول إلى اليمين المتطرف في أوروبا. بالتأكيد موضوع الهجرة من الأسباب. لكن الهجرة بشكلها الحالي كانت معنا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل. هل تختلف أفواج الأتراك الواصلة في الخمسينات والستينات إلى ألمانيا عن أفواج السوريين الآن؟ هل شاهدت السفن التي تحمل السود والهنود بمئات الآلاف إلى بريطانيا في مراحل غروب الشمس عن الإمبراطورية البريطانية؟

الفرق الرئيسي هو أن اليمين المتطرف صار يعطي الانطباع بأنه التيار الوحيد الذي يستمع للناخب. لا يوجد تفسير آخر لما يحدث خصوصا لو أخذنا بالاعتبار أن اليمين المتطرف لا يقدم برامج تفصيلية عن سياساته إذا وصل الحكم، على النقيض من اليمين واليسار والوسط. لكنه يستمع. يستمع إلى قلق الناس على مصائرهم في الوظيفة والتناسق الاجتماعي وفرص الرفاه. الناس لا يصوتون لليمين المتطرف لعقله وفكره، بل يصوتون لأذنه.

هل تذكرون حكايتنا في عالمنا العربي بين التقدمية والرجعية؟ ما الذي جعل الدول في الخليج تزدهر وتصير مضربا للمثل، في حين لم يبق الكثير من الأثر لرافعي شعار التقدمية؟ الفارق أن الشيخ الحكيم في الخليج ينصت، بينما قرر الجنرال أو الزعيم الحزبي بأنه يعرف كل شيء في كل شيء، وعما يدور في عقلك من دون الحاجة إلى أن ينصت.

18