"حرقة" دراما تونسية موجعة تكشف حقيقة الأنا والآخر دون مواربة

السيناريو المحبوك والتأطير الإخراجي والممثلون المسرحيون سرّ نجاح المسلسل.
السبت 2022/04/09
الحقيقة دون مساحيق

حقق مسلسل "حرقة" في جزئه الأول الذي عرض رمضان العام الماضي نجاحا كبيرا، ولكنه في جزئه الثاني بعنوان فرعي “الضفة الأخرى” يعد بالحفر أعمق في ظاهرة تؤرق مجتمعات جنوب المتوسط وشماله، عمل يربط بين هذين الضفتين بطريقة جريئة لا رهان لها سوى كشف الحقائق رغم الواقع القاتم.

في الجزء الثاني من مسلسل “حرقة” بعنوان “الضفة الأخرى”، نتابع الأحداث في ضفتين متقابلتين، هما تونس وإيطاليا، وما بينهما البحر المتوسط، الذي لا يتوقف عن خلق حكايات مأسوية ترقى إلى مرتبة التراجيديا، للآلاف من المهاجرين التونسيين والمغاربيين والأفارقة الفارين على قوارب الموت إلى الضفة الأخرى طمعا في حياة أفضل.

قد لا يستوعب كثيرون من خارج الفضاء المغاربي والشمال أفريقي عمق ظاهرة الهجرة غير الشرعية أو الهجرة السرية أو الرحلة المميتة التي يخوضها مهاجرون يائسون على قوارب متهالكة يبتلع البحر أغلبها قبل أن تنهي رحلتها، وتتوه أخرى إلى موت بطيء، فيما من يصل يبدأ فصول مأساة أخرى.

بين ضفتين

عمادالدين الحكيم: المسلسل يسير بنسق تصاعدي وهذا ما عودنا به المتفرج

لا تكاد توجد عائلة في تونس مثلا تخلو من مهاجر سري، أو كما يسمى “حارقا”، فيهم المفقودون إلى الأبد دون إعلان موت رسمي، ودون قبور أو جثث، وفيهم الذين لفظهم البحر جثثا، وفيهم من نجا ليعيش فصول حياة قاسية أخرى بين شبكات المافيا والمخدرات والدعارة والامتهان البشري، وينتهون بدورهم مفقودين أو موتى عائدين في صناديق، أما من يعودون أحياء، فلكل واحد منهم أسطورة مكذوبة تشجع الأجيال اللاحقة على اختيار نفس الطريق.

مآسي المهاجرين لا تتوقف، وأن يكشف تفاصيلها بدقة وجرأة ودون مواربة عمل درامي، هو ما يتمناه الكثير من التونسيين، ومن خلفهم المغاربيون والأفارقة.

يواصل “حرقة” رحلة المجموعة التي هربت من الشانترو أو محل الاحتجاز الذي تبقي فيه السلطات الإيطالية المهاجرين غير الشرعيين الذين تلتقطهم من شواطئ إيطاليا، لترحّل بعضهم وتدرس وضعيات آخرين، فيما يتحكم في كل ذلك لعبة الفساد والإذلال والاتجار بالبشر.

تفرقت المجموعة، وتدعم العمل بشخصيات أخرى، تربط ضفتي جنوب المتوسط بشماله، جنوبه ممثلا في تونس، والأماكن التي اختار أن ينطلق منها العمل، حي شعبي ومصب للنفايات حيث مجتمع مهمش يجمع قوته من فرز النفايات، وسط الروائح الكريهة وبين الأكوام من الزبالة، إحداهن تحمل معها طفلها المتميز في الدراسة، والأخرى أباها، وهناك نرى ما يشبه المجتمع المصغر الذي يجبر الفقر أفراده وعائلاته على امتهان النبش في القمامة، منهم من تتهشم عظامه تحت الشاحنات التي تفرغ نفاياتها، وفيهم من تتصاغر أحلامه، بينهم الصراعات حتى لأجل قطعة أليمينيوم، وبينهم المحبة التي يحشدها الواقع المزري المشترك، واقع دفع بأم مجهولة إلى إلقاء رضيعها في علبة كرتون في المصب.

من هناك إلى الحي الشعبي حيث تقيم أم فارس، الفتى الذي رحل بإيعاز من أمه في رحلة خطيرة إلى إيطاليا، ليتحول هناك مرغما بعد أن مزقه الجوع والضياع وبرد الشوارع وخطر المنحرفين إلى أن يعمل في بيع الهيروين مع شخص تونسي. هي رحلة أغلب التونسيين الفارين سريا إلى إيطاليا، حيث تتلقفهم أيادي المافيا، وتسخّرهم عبيدا لخدمتها، تتخلص منهم ما أن تنتهي مهامهم.

ويحسب للمسلسل أنه خلص صورة المهاجر غير الشرعي من إطارها الذكوري، بتركيزه على المهاجرات غير الشرعيات من تونسيات ومغاربيات وأفارقة، أو النساء اللاتي ابتلعتهن الضفة الجديدة وشوهتهن بكل قسوة من الداخل، بعضهنّ تحولن إلى بائعات هوى وأخريات إلى مدمنات، ويرصد “حرقة” كيف اقتيدت الفتيات الهاربات من الحجز ومن الشرطة الإيطالية إلى ضيعة فلاح إيطالي، يعاملهن كأمات يستعبدهن للعمل في مزرعته مقابل الطعام والزريبة التي يقمن بها وقليل من المال، وفيهن من يستغلها جنسيا، وإذا ما انقضت الحاجة يلقي بهن إلى الشرطة، في ما يشبه التواطؤ بينه وبين أصحاب المزارع الأخرى والشرطة حتى.

في السجن في إيطاليا أيضا نرى ملامح أخرى للتونسيين بشكل خاص، منهم النادمون ومنهم المجرمون ومنهم الذين اتجهوا إلى التشدد الديني، بينما نتابع حكاية “الحرّاق”، من يقوم بتسفير المهاجرين، صاروخ وصديقه عياد، في رحلة يخوضانها للنجاة في مكان قاتل، يحاول فيه الكثيرون الانتقام منهما.

أما في شوارع باليرمو، حيث تنتشر الجريمة والمشردون الأفارقة والتونسيون، ويتعرضون لأبشع أنواع التنكيل والعنف والتمييز العنصري، فالمشهد ليس أقل قتامة، خاصة ونحن نتابع رحلة الأب الذي هاجر سريا مخاطرا بحياته بحثا عن ابنه.

دراما بلا قيود

الدراما قد تكون أداة للقوة الناعمة التي تستغلها السلطات أو الجهات الإنتاجية في أي دولة لتمرير رسائلها بشكل معيّن ولغاية معينة لكن أغلبها تخشى النقد الحر، فأن تكون الرسالة التي يقدمها العمل حرة متحررة من كل أشكال الرقابة والتوجيه القبلي، وجريئة في صراحتها وهي تعري الذات والآخر وتنتصر للحقيقة لا شيء غير الحقيقة لهو أمر صعب، ولكن “حرقة” يحقق تلك المعادلة.

لم يخش منتجو العمل الذي تبثه القناة الوطنية الأولى الحكومية، من تقديم نقد قاس للذات، للتونسيين أنفسهم، فتقدم الكثيرين منهم في صورة العنصريين ضد الأفارقة، وهو واقع نحجبه كل مرة تحت مسمى ما، فيما يعاني هؤلاء في تونس من تمييز كبير، خاصة مع تزايد أعدادهم والتجائهم للعمل بأجر زهيد وأحيانا مقابل الأكل والمبيت، مثل نقطة امتعاض من التونسيين الذين يعانون بدورهم الفقر والبطالة.

العنصرية ليست وليدة الفقر والتنافس على العمل فقط، بل هي ظاهرة أعمق من ذلك بكثير، ولا تثار القضية إلاّ لتخفت وتظل في المسكوت عنه، هل نحن عنصريون؟ الإجابة في “حرقة” نحن عنصريون جدا.

نفس العنصرية تمارس على التونسيين أنفسهم في الضفة الأخرى، التي يدعي أبناؤها من أحفاد العجوز أوروبا أنهم الإنسانيون الأرقى والأكثر تحضرا، فيما يمتهنون البشر ويحولونهم إلى دمى للجنس وتجارة الممنوعات والعمل الشاق في استعباد مطلق.

إضافة إلى العنصرية يكشف المسلسل الجوانب المظلمة من الأساطير المكذوبة للمهاجرين الذين يعودون كل صائفة إلى بلدانهم بسياراتهم الفارهة والعملة الصعبة واللباس الفخم والحكايات المزيفة، صورة لخصها قول تاجر المخدرات الذي يعمل عنده فارس “نتسخ هنا لنعود إلى بلداننا نظافا”، وأي وسخ هو عالم الجريمة من قتل وإخفاء للجثث في الغابة وترويج مخدرات واتجار بالبشر، حيث لا ناجي من اللعبة إلا إلى حين.

نقاط القوة

◙ الدراما قد تكون أداة للقوة الناعمة التي تستغلها السلطات أو الجهات الإنتاجية في أي دولة لتمرير رسائلها بشكل معيّن
الدراما قد تكون أداة للقوة الناعمة التي تستغلها السلطات أو الجهات الإنتاجية في أي دولة لتمرير رسائلها بشكل معيّن

نقطة القوة في العمل الدرامي الذي لا يزال مستمرا في بث حلقاته التي تعد على ما يبدو بتطورات كبيرة، هو حبكة السيناريو والرؤية الإخراجية وهي تتنقل بسلاسة بين اللقطات البعيدة، والملاحظ أن المخرج قلص من استعمال الدرون في هذا الجزء التي أفرط فيه في الجزء الأول، ومن ثم الكادرات القريبة التي تتطلب جهدا تمثيليا كبيرا، والتقسيم الزمني الذي يكسر أحيانا الخطيّة، أو تصدير كل حلقة بلقطات مشوقة مما سيحصل.

وما يحسب للعمل أيضا أنه استعان بأبناء المسرح في أغلب الطاقم التمثيلي، وقد أدارهم بالشكل الجيد ليقدموا أفضل ما عندهم بتفاوت، فالقدرات التمثيلية التي نحن بصددها سواء لدى الوجوه الشابة أو المعروفة مثل ركيزة أساسية في جودة العمل، الذي يتجاوز المحلية.

نسأل هنا كاتب سيناريو مسلسل “حرقة” عمادالدين الحكيم إن كان استعان في الكتابة بفريق كما تفعل أعمال أخرى، ليجيبنا “لا أعتمد عادة على ورشات الكتابة لكنني أجد المساعدة أحيانا من المخرج في إيجاد حبكات وأفكار جديدة”.

قد لا يستوعب كثيرون من خارج الفضاء المغاربي والشمال أفريقي عمق ظاهرة الهجرة غير الشرعية أو الهجرة السرية أو الرحلة المميتة التي يخوضها مهاجرون يائسون على قوارب متهالكة

وحول كتابة شخصياته يقول الحكيم لـ”العرب”، “أحرص دائما أن تكون أغلب الشخصيات مستوحاة من الواقع حتى تكون قريبة من المتفرج”.

ويفند العمل صورة المهاجرين المغلوطة، وكما بيّنا أعلاه فإنه يتجاوز المحلية في تعامله بدقة مع الأنا والآخر، تسأل “العرب” السيناريست والكاتب التونسي إن كانوا يسعون إلى ترجمة عملهم ليؤكد ذلك، قائلا “نعم نسعى إلى ترجمة العمل للغات عدة وسيكون هذا بالتنسيق مع التلفزة الوطنية والمنصة العارضة للعمل”.

يبدو أن الجزء الثاني من مسلسل “حرقة” احتاج إمكانيات إنتاجية أكبر، يقول الحكيم “إنتاج جزء ثان من مسلسل ناجح يعتبر أمرا صعبا وحتى الميزانية المرصودة للمسلسل على أهميتها تعد ضعيفة مقارنة بأعمال عربية وبتكاليف الإنتاج المعتمدة اليوم”.

وتسأل “العرب” الحكيم: بماذا تعد المشاهدين؟ ليجيب “مسلسل حرقة 2 يسير بنسق تصاعدي وهذا ما عودنا به المتفرج في أعمالنا السابقة”.

13