التنمر اللغوي خطر على الثقافة الشفاهية في غالبية الدول العربية

حرف القاف عند العرب.. الأكثر إشكالا وإثارة للجدل السفسطائي.
الاثنين 2023/02/06
الفن مجال سخرية من لهجات الأرياف

تزخر البلدان العربية بتنوع ثقافي كبير نظرا إلى تنوع شعوبها وأصولهم، ويوازي هذا التنوع تنوع في اللهجات التي استفاد كل منها من لغات أخرى كثيرة، لكن هذا التنوع الذي يعتبر مجالا ثقافيا خصبا تحول في العقود الأخيرة مع ظهور المدن الجديدة أو التيارات الطائفية إلى نوع من النقمة، إذ كرس لتقسيمات كثيرة مبنية على اللهجة.

لا يختلف اثنان في أن قانون الوحدة والتناقض يرخي بظلاله على كل شيء، من ذلك اللغات واللهجات داخل الإقليم الثقافي الواحد.

هذه مسألة في عهدة المتخصصين من أصحاب الدراسات الألسنية، لكن الثقافة الشفاهية في غالبية بلدان العالم العربي تعاني في جوهرها من أزمة وجود بسبب ما يمكن تسميته بـ”حالة تنمر لغوي” يمارسها سكان العواصم على باقي اللهجات المنتشرة في الجهات الداخلية.

التناقضات الاجتماعية

الثقافة الشفاهية في أغلب البلدان العربية تعاني من أزمة وجود بسبب ما يمكن تسميته بـ"حالة تنمر لغوي"

طبعا، قد يقول قائل إن الأمر شبه طبيعي، ويحدث في أقاليم أخرى من العالم، وذلك بحكم الثقل الاقتصادي والاجتماعي والإداري والثقافي، مما يشكل نوعا من المركزية التي تعطي شعورا بالتفوق.

ولم تنج الثقافات الأوروبية في القرون الماضية من هذا التنمر اللغوي المتمثل في السخرية من اللهجات كما هو الحال في مسرح موليير الفرنسي وكوميديا ديلارتي الإيطالي، وغيرها من مناطق أوروبا، لكن ذلك خف تدريجيا بعد الثورات الصناعية والثقافية عموما.

أما في أقاليم كثيرة في العالم العربي فقد زادت حالات التنمر اللغوي بل تكرست في أحيان كثيرة بحكم عوامل مختلفة ومتداخلة لا تخلو من السياسة والفوارق الطبقية والمصالح الفئوية.

مجموعة الانزياحات تلك تمكن لهجة دون غيرها من سرقة الأضواء واحتلال الصدارة على حساب لهجة كانت تكتسح المشهد مثل الصعيدية في مصر بعد مجيء جمال عبدالناصر، إذ تمكنت من منافسة لهجة نجيب محفوظ القاهرية في رواياته، وكذلك وجدت لها مكان البطولة في السينما بعد أن كانت لهجة البواب البليد والفلاح
المغفل.

اختلاف اللهجات في عالمنا العربي أصبح مؤشرا آخر من مؤشرات التباين والتخبط والتصدع بين الإخوة الفرقاء
اختلاف اللهجات في عالمنا العربي أصبح مؤشرا آخر من مؤشرات التباين والتخبط والتصدع بين الإخوة الفرقاء

الأمر ينطبق على لهجات الساحل السوري التي يتكلم بها عدد كبير من أفراد السلطة الحاكمة منذ بداية السبعينات، وتمكنها أخيرا من إعلاء صوتها في أفلام عبداللطيف عبدالحميد، ومنافستها للهجة الشامية التي تنطق بها الدراما السورية إلى درجة أن عربا كثيرين يعتقدون أن جميع السوريين يتحدثون بهذه اللهجة.

أما في تونس، وعلى الرغم من حالة التجانس شبه الطاغية في المجتمع مقارنة ببلدان عربية أخرى، فإن اللهجات الريفية ظلت محل سخرية من سكان العاصمة ومدن الساحل الشمالي، واستخدمها ممثلون مسرحيون بقصد الإضحاك، إلى أن سادت موجة “الترييف”، وزادت عليها ثورة ما بعد 2011 فجعلتها “أمرا واقعا”.

الواضح أن التناقضات الاجتماعية أو حتى الصراعات الطبقية كما يقول الماركسيون، أخذت طابعا لهجويا، وتجلى ذلك في أعمال روائية كمؤلفات الكاتب البشير خريف الذي ينحدر من منطقة الجريد في الجنوب الغربي التونسي، وكذلك في بعض المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية، لكن المسرح ظل المهيمن وهو لسان المجتمع التونسي بكل فئاته.

وعلى الرغم من أن الأوراق اختلطت كثيرا في السنوات الأخيرة، فإن التنمر اللغوي ما زال سائدا على امتداد العالم العربي. وأخذ أشكالا سلبية ومؤسفة بالتقييم الأخلاقي.

أصبح اختلاف اللهجات في عالمنا العربي مؤشرا آخر من مؤشرات التباين والتخبط والتصدع بين الإخوة الفرقاء بدل أن يكون عنوانا للتنوع الثقافي ودليلا واضحا للعمق الحضاري.

انقلاب النعمة

إرث لغوي عريق
إرث لغوي عريق

 من نكد الدنيا على المرء أن تصبح نعمته نقمة وغناه فقرا ويمسي جماله قبحا “يوحد” ويجمع أبناء الوطن والحلم والمصير الواحد.

كيف تنقلب اللكنات إلى لكمات موجعة يتبادلها أبناء اللغة الواحدة؟ هل باتت اختلافاتنا اللغوية والألسنية واللهجوية مصدرا للفرقة والتمييز وتربة خصبة لزراعة الضغائن والأحقاد؟

لعل أروع ما يمكن أن يتباهى به دليل سياحي في بلاد العرب أمام قوافل القادمين إلى منابع الشمس ومنابت الجمال الروحي والمعرفي هو حدة التنوع في الألسنة واللكنات التي تحيلك إلى أصول حضارية متنوعة، لكنها متصاهرة وتشكل “وليمة” معرفية و”غنيمة” ألسنية لدارسي السلالات اللغوية.

ليست هذه المقدمة إلا مقدمة لـ”مقدمة خطيرة” تهدد وحدة التنوع في بلاد عربية كثيرة وهي التنابز بالألقاب اللغوية والسخرية من اللهجات ومن ثم الفرز الطبقي والطائفي الجائر والمقيت من خلال اللكنة وطرق نطق الحرف الواحد في اللغة الواحدة.

في تونس، وعلى الرغم من حالة التجانس شبه الطاغية في المجتمع مقارنة ببلدان عربية أخرى، فإن اللهجات الريفية ظلت محل سخرية من سكان العاصمة ومدن الساحل الشمالي

كنا نتفكّه مثلا ونضحك ببراءة لقصص تروى عما يعرف بالجيم القاهرية والجيم الصعيدية في مصر ثم اكتشفنا أنها لا تخلو من غمز عنصري وتمايز جهوي واضح يتصف بالاستعلاء بين سكان المدن وسكان الأرياف، وقس على ذلك في أقطار كثيرة وأحرف عديدة من اللغة الأم كأساليب نطق الضاد والذال والثاء بين اللين والتفخيم والخفة والشدة لدى الحضر من جهة والبدو من جهة أخرى.

يظل حرف القاف هو الأكثر إشكالا وإثارة للجدل السفسطائي الذي لا طائل من ورائه إلا استنهاض العقد الطائفية والعنصرية والمناطقية، على اعتبار أن التوزع الجغرافي يحمل معه توزعات أخرى في السلوك والمعتقد ونمط العيش.

ثمة في بلادنا (الغنية باللهجات والأزمات أيضا) من ينطق هذا الحرف مثل الهمزة توخيا للسلاسة والسهولة وغالبيتهم من أبناء المدن الكبرى والضواحي المتاخمة لها.

ثمة من ينطق هذا الحرف كاملا واضحا غير منقوص وهم سكان مدن شمال أفريقيا وسكان المناطق الجبلية والقرى الساحلية في سوريا، أما من ينطق حرف القاف مثل الغين أو الجيم القاهرية فغالبيتهم من البدو أو الأرياف التي تمدنت ويشكلون الغالبية العظمى في بلاد الخليج.

يبدو الأمر عاديا ومنطقيا، بل جميلا في تنوعه، لكنه بدأ يخفي وراءه نوازع مشبوهة وإحالات غير بريئة تطل برأسها في الإشارة إلى فرز طائفي مذهبي ومناطقي ينذر بعواقب مخيفة.

“قال”: فعل إخباري يشكل سندا ينتظر متنا. والغاية تبقى دائما في ماذا نقول وليس كيف ننطق ما نقول.

12