حراك النهضة الداخلي: معركة الديمقراطية تفصيل صغير

تمسك بخيار الرجل الأوحد الذي لا اعتراض على حكمه ووجوب الطاعة.
الأحد 2020/11/22
الخناق يضيق على الغنوشي

الوضع الداخلي لحركة النهضة ينبئ بحراك عميق. حراك سيكون مختلفا هذه المرة عن سواه من المرات التي خبر فيها التونسيون التصريحات المنفلتة لبعض القياديين وخروجهم عن النص. المعركة الآن تتعلق أساسا بمناصب عليا في الحركة. بالقيادة أساسا. بجوهر الموضوع وزوايا النظر إلى مستقبل الحركة ما بعد “المرشد الأعلى” أو الزعيم الأوحد راشد الغنوشي.

تكشّف المستور هذه المرة وذهبت لغة المغازلة وإيهام الخصوم بأن الحركة، ككل الكيانات السياسية، تخضع لمراحل “احتراب” داخلي إلى ناحية لا يمكن للجميع أن يصدّقها. حتى زعيمها الغنوشي بات يقلّب الدفاتر ويتقصى في نقل المعركة من الكواليس المظلمة للحركة إلى الإعلام؟

لا شيء خافيا بعد اليوم عن السجال الذي سيطبع العلاقة بين مختلف الروافد التي تحكم الحركة من الداخل وخصوصا تلك التي غادرت “الحلبة” ولا يزال صداها يتردّد بتصريحات مزدوجة تركز أساسا على الأخطاء المتوارثة للقيادة، على غرار القيادي السابق عبدالحميد الجلاصي والمستشار السابق للغنوشي لطفي زيتون، وغيرهما من القياديين الأوائل الذين خبروا جيّدا لعبة المناورة التي يقوم بها رئيس الحركة، وسئموا اللغة المزدوجة لبعض القياديين المشدودين إلى إرث الزعيم رغم تآكل شعبيته المحلية والدولية.

تسارعت الأحداث داخل حركة النهضة الإسلامية بنسق حثيث مؤخرا بين استقالات وصراع أجنحة وعرائض مقدمة للغنوشي تطالبه بالمكاشفة والمصارحة حول القيادة المستقبلية للحركة.

وفيما بدا أن البيت الداخلي للحركة يعيش حراكا بدأت أطواره تتفاعل بنسق تصاعدي منذرة بخصومة أشد تعقيدا بين الجناح الإصلاحي الساعي إلى تغيير الدينامية المفضوحة للحركة وتهدئة الأجواء المشحونة في المشهد السياسي ضدّها، يواصل جناح التبعية البراغماتي نهج التضليل والممانعة وينفخ في صورة الزعيم الملهم الذي لا يستقيم حضور الحركة ورمزيتها إلا في وجوده.

شيء من اليقين يحرّك هذين الشقين المتنازعين على صلاحية القيادة داخل النهضة برؤى ومقاربات شتى للواقع المأزوم الذي تعيشه بسبب تعنّت زعيمها وهروبه عن مكاشفة القيادات الغاضبة حول مسألة التجديد.

من جهته، وجد الغنوشي في أزمة كورونا والظرف الصحي الذي تمر به البلاد متنفسا لتأجيل المؤتمر، يعاضده في هذه الرؤية جيل شبابي صاعد منبهر بصورة الزعيم.

قد لا يعكس الطرح العادي لمسألة تأجيل المؤتمر أو انعقاده في توقيته الأصلي أيّا من الأطروحات التي يسوّق لها الشق المناصر للغنوشي. فيما بدا أن الهدف الأسمى هو المكاسرة للقيادات الغاضبة أو ما يسمّون بـ”مجموعة المئة” ومحاولة حشرهم في زاوية ضيقة تبعدهم عن فكرة عدم المساس بالفصل 31 من القانون الداخلي والذي يقرّ بضرورة تغيير القيادة.

ورغم أنه يصعب التكهن بمآلات الحزب في قادم الأيام، إلا أن انسحاب ثلث أعضاء مجلس الشورى (60 عضوا) يرى فيه مراقبون مسارا يعيد إلى الأذهان نفس الطريقة التي تمخّض عنها تفكيك حزب نداء تونس وانشطاره إلى حزبين، عندما عقد مؤتمران متوازيان للنداء أسفرا عن انتخاب رئيسين للجنة المركزية في تجسيد للانقسام داخل الحزب قبل أشهر من الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت في 2019.بالرغم من أن مسألة خروج بعض القيادات الوازنة كانت شيئا اعتياديا بالنسبة إلى زعيم الحركة الذي لا يمانع في تغيير ثوب الحركة وإبعاد الشق المناوئ له، فإن جل تصريحات بعض القياديين من صف “الحمائم” تركزت على ضرورة أن يَعدُل الرفاق عن ضرورات الديمقراطية التي تبيحها الحركة لغيرها ولا يمكن أن تكون من الثوابت في هيكلها الذي ينتمي إلى صف الجماعة أكثر من كونه حزبا منظما بقوانين وأعراف توجّب احترامها والرضوخ لها.

هل يعيد السيناريو نفسه داخل الحزب المعروف تكتيكيا بانضباط قياداته والتزامها بترتيبات القوانين الداخلية للحركة؟ شيء من اليقين يضع جميع الحسابات موضع تساؤل وجدل، وربما يذهب ناحية تفسير تلك الخرجات لبعض القياديين، وخروجهم عن النص أحيانا كونها لغة مزدوجة للحركة تنمّ عن تظاهر بالديمقراطية وحرية التعبير فيما تكتفي التبريرات على المنابر الإعلامية بأنها لا تُلزم إلا الناطقين بها، على غرار ما كان يردّده الشيخ عبدالفتاح مورو وعبداللطيف المكي وغيرهما في كل مرة تطرح فيها مسألة التجديد للغنوشي.

جاء الوقت ليتكشف للجميع أن كل تلك الشقوق ما هي إلا بوادر لتفجّر وضع داخلي شديد الغليان سببه تمسك زعيم الحركة بخيار الرجل الأوحد الذي لا اعتراض على حكمه وطاعته مهما كانت الحصيلة، إيجابا أو سلبا. طبعا هذا الكلام لا يستقيم بالنسبة إلى أولئك المتمسكين بترذيل العمل الديمقراطي سواء حزبيا أو على مستوى تعاطي الحركة مع الوضع السياسي العام للبلاد. إضافة إلى كونه يعكس طموحا لدى بعض القيادات المتسلقة من الصف الثاني التي عاشت في تونس زمن نظام بن علي ونالت نصيبا وافرا من الغنيمة بعد الثورة وهي غير مستعدة للتنازل عنها الآن. يضاف إلى كل ذلك أنها تصطف الآن وراء الغنوشي لغايات وتبريرات واهية.

السيناريو الذي تعيشه حركة النهضة الآن لا يمكن أن يحيد عن توصيف الحراك الداخلي ككل الأحزاب التي تمر بمخاضات واختلافات في وجهات النظر والأطروحات وأيضا في مستوى التسيير والتدبير. لكن واقع الأمور يشي بمرحلة غليان مفتوحة على كل الاحتمالات، خصوصا مع انتقال المعركة إلى الفضاء الافتراضي، في وقت وجّهت فيه الحركة أبواقها الإعلامية ضد القيادي السابق عبدالحميد الجلاصي للجرأة التي تحلّى بها في كشف تناقضات داخلية كبرى.

هكذا هي الديمقراطية شكلانية من وجهة نظر الإسلاميين لكنها تعبير فاضح عن جماعة الإسلام السياسي من وجهة نظر خصومهم، كونها سحبتهم إلى دائرة الضوء وعرّت زيفهم وتضليلهم، وهو ما يعكسه موقف مجلس شورى النهضة الأخير الذي لوح فيه بمعاقبة القيادات الغاضبة وكل من يتجرأ على “نشر غسيل” الحركة.

4