حتى لا تكون الليلة كالبارحة!

استمرار حالة الاضطراب في المنطقة يشي بمخاطر جمة على مستقبل الأمن القومي الداخلي لكل دولة وكذلك الحال بالنسبة إلى الأمن الإقليمي وأمن العالم كله في ظل تفسخ النفوذ الدولي.
الثلاثاء 2023/02/21
الولايات المتحدة لم تقدم للعراق والمنطقة  إلا الخراب

العالم العربي إقليمٌ في جغرافيته، سيبقى منطقة بالغة الحيوية وذات أهمية إستراتيجية قصوى للعالم أجمع، قديما وحديثا. امتدتْ حدوده شرقًا وغربًا؛ وكوّنتْ واحدة من كُبرَيات إمبراطوريات الأرض على مدى التاريخ. مرّ بفترات صعود وهبوط، وتعرّض إلى أكثر من غزو قديما وحديثا؛ لأسباب سياسية، واقتصادية، وتدخلات خارجية، ولم تنجُ من تداعياته إلا مناطق محدودة.

عايشَ ما أنبأت به حوادث التاريخ، وما توقعه قدامى المؤرخين، العرب والمسلمين، ممن امتلكوا رؤية استباقية لما ستكون عليه أحوال الأمم فيما بعد، منطلقين في ذلك من إلمامهم بقوانين الصيرورة التاريخية، ووعيهم التاريخي بواقعهم المعيش من خلال قراءة الحوادث الماضية، ورصد معطيات الحاضر.

أدخلوا “المستقبل” في دراساتهم التاريخية، فلم يكتبوه وأنّى لهم ذلك! وإنما استنتجوا فواتحه في مهارة ذهنية تجمع بين الإبداع والإمتاع والإقناع. ولقد انطلقوا من ملاحظة حاضرهم القائم في استنتاج ملامح مستقبلهم القادم، ولم تكن توقعاتهم ضربة لازب أو خَبْط عشواء!

استلاب وانبهار.. وذوبان

◙ أحداث ومواقف سياسية واقتصادية واجتماعية وحقوقية وثقافية أدت أغراضها، وتنتظر المراجعة والتحليل والتقويم

وجدنا بين مؤرخي الغرب العربي نماذج لمؤرخين وُفّقوا إلى مهارة استشفاف المستقبل واستقبال إرهاصاته؛ فقد رصد ابن خلدون (توفي: 808هـ/1405م) تأثر الأندلسيين بمن جاوروهم، فعدّ ذلك مؤشرًا على الاستلاب الثقافي، وانبهارًا يُفضي إلى انصهار، وذوبانًا حضاريًّا يُمهّد لاضمحلال سياسي، فقال محذرًا من أهوال المستقبل: “… يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء”.

وهذا ابن الأثير في هذا النص المُثير، كان يبكي رسوم الممالك نفسها، وطَمْس معالمها قبل أن يتحقق ذلك. كان يتوجس خيفة من زلزال قادم؛ فما أصدق لهجته حين أعلن مستشرفا أنه: “يكتب نعي العرب والمسلمين”.

توفى سنة (629هـ/1231م) قبل أن تتوغل جحافل المغول (سنة 656هـ/1258م) في بغداد عاصمة الدولة العباسية، وتفعل بها الأفاعيل.

أما نذيرُه الذي أذاعه في حولياته التاريخية قبل حلول الكارثة الكبرى بنحو ربع قرن، فلم يُغْنِ شيئًا؛ لم يستمع إليه سامع، ولم ينتصح به مُنتصح. كانت حالهم كما عبّر عنها الشاعر العربي القديم:

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيـــًّا

ولكن لا حياةَ لمن تـنــادِي

ولو نارٌ نفختَ بها أضاءتْ

ولكن أنتَ تنفخُ في الرماد

مشهد استعماري جديد

حدث ما حذر منه ابن الأثير.. جحافل المغول والفرنجة تقتحم بغداد في عام 1258 وغرناطة  في عام 1492، وفرنجة العصر “الأميركان” بغداد في عام 2003. تبدو جميعها صورة متكررة لحدث واحد، من ورائه عملاء الداخل وأعداء الخارج، وضعف في قياداته.

فما أن استقلت المنطقة العربية، وترجّل أولئك الرجال الذين ناضلوا من أجل تحرير أوطانهم، حتى تراجعت تلك الحركة النضالية، وخفّت حدتها، وإذ بخونة الداخل وداعميهم بالخارج يسعون جاهدين لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، واستدعاء المشهد الاستعماري، ولكن بثوب ومظهر جديدين، ظاهرهما فيه الرحمة وباطنهما فيه العذاب.

فبعد احتلال العراق حاولتْ واشنطن الانتقال بمشروع “الشرق الأوسط الكبير” من مرحلة الترويج إلى مجال التنفيذ، وأصبح العراق ـ الذي سعت الولايات المتحدة إلى إعادة صياغته وفق تصورها لإنجاز هذا المشروع خلال عقد أو أكثر ـ نموذجا لأي تحولات مرتقبة في القوس العربي – المسلم الممتد من المغرب إلى إندونيسيا، لكنها لم تقدم للعراق والمنطقة،  إلا الخراب والدمار، وتسليم مقدرات هذا البلد العريق، تاريخا وحضارة، إلى إيران بدعم  مباشر منها أو غير مباشر، وبمباركة قوى تابعة لها أي إيران، الأمر الذي مكّنها من بسط نفوذها في شؤون المنطقة العربية، من خلال أربع عواصم عربية هي: صنعاء، وبيروت، ودمشق، وبغداد التي تعدّ بحق منبعًا تاريخيًا وأصلا مشهودًا لحضارات العرب، إلا أنه بوعي الشعب العراقي بكل مكوّناته سوف يُفشل كل المؤامرات على العراق والمنطقة؛ وكل حال يزول.

◙ العقل السياسي العربي مازال غير معنيّ بما جرى من انتكاسات وكوارث، ويزداد تمسكا بالكثير من السياسات والإستراتيجيات التي ثبت فشلها، وجلبت الكثير من الخسائر والمخاطر

مناخات توافقية ومراجعات

رغم بشاعة ما جرى للعراق، إلا أن رد الفعل العربي لم يكن بمستوى الحدث الجسيم، إما عن غفلة وعجز وقلة حيلة أو تواطؤ وخيانة. لم تحرك فيهم تلك النوازل الكارثية نخوة المعتصم، ولا نصرة أمن قومي منتهك، بل زادتهم تشتتا وتفرقا وتفككا.

ودبّ الخلاف في البيت العربي غربا وشرقا، وعمّ معظم دوله، وبخاصة منذ أحداث الربيع العربي، ولم تسلم من تداعياته منظومة البيت الخليجي لولا حكمة وتبصر العقلاء، وما تؤكده تحركات قادة المجلس استشعارا منهم لعظم المسؤولية وخطورة المرحلة، وضرورة السعي إلى إيجاد مناخات توافقية أقل حدة، ليس فيما بين دولهم، بل مع محيطهم العربي والإسلامي والدولي.

إن استمرار حالة الاضطراب في المنطقة يشي بمخاطر جمة على مستقبل الأمن القومي الداخلي لكل دولة، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأمن الإقليمي، وأمن العالم كله، في ظل تفسخ النفوذ الدولي وتنازعه بين أميركا يدعمها “حلف الناتو” من ناحية، وروسيا والصين من ناحية ثانية، وتداعيات حرب روسيا في أوكرانيا على المنطقة العربية والعالم من ناحية ثالثة.

كل ذلك يستدعي مراجعات عربية جدية، بغية تقليل، وربما تلافي، الآثار السلبية التي تلقي بظلالها على أمن المنطقة العربية واستقرارها، والخليج العربي في صدارتها.

تَغيّروا أو تُغيّروا

◙ رغم بشاعة ما جرى للعراق، إلا أن رد الفعل العربي لم يكن بمستوى الحدث الجسيم، إما عن غفلة وعجز وقلة حيلة أو تواطؤ وخيانة. لم تحرك فيهم تلك النوازل الكارثية نخوة المعتصم

 هذا المشهد المتحرك عبّر عنه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، رئيس مجلس الوزراء، بقوله: “تَغيّروا أو تُغيّروا” لكنّ اللافت أن هذا النداء، أو بالأحرى التحذير، المهم فات قيادات عربية وقتها أن تتوقفَ أمامه بالتفهم والدرس ووعي دوافعه وأبعاده وأهدافه، فوقع ما عاناه العالم العربي من أحداث وتقلبات، كانت تكلفتها غالية، وأعباؤها ثقيلة، وتداعياتها مُرّة.

اللافت أيضا، وربما المؤسف، أن العقل السياسي العربي مازال غير معنيّ بما جرى من انتكاسات وكوارث، ويزداد تمسكا بالكثير من السياسات والإستراتيجيات التي ثبت فشلها، وجلبت الكثير من الخسائر والمخاطر.

ويلاحظ المراقب للتطورات في العالم العربي أن أحداثا ومواقف سياسية واقتصادية واجتماعية وحقوقية وثقافية أدت أغراضها، وتنتظر المراجعة والتحليل والتقويم، كما ينبغي الإقرار بأن حيوية هذه المنطقة ستبقى شأنا استثنائيا من شؤون الأمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدول المتقدمة صناعيا وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين.

إن واجب المصارحة يقتضينا أن نتوقف أمام تساؤل مهم: هل ما يحدث في منطقتنا العربية يتم عن سابق علم ومعرفة وعمالة؟ أم جهل وضعف وقلة حيلة؟ وسواء كان الجواب هذا أو ذلك، فإن المحصلة النهائية واحدة: خسارة كبرى للجميع، للوطن والمواطن، للحاكم والمحكوم ، وضياع لمكانة الدولة وهيبتها، وإهدار لمقدرات الشعوب ومكاسبها، وتعريض مصالحها العليا للخطر، وانفصال عن التاريخ بدروسه وعِبره، وفشل في استشراف “القادم” بآماله وآفاقه وفضاءاته، وعجز عن صناعة مستقبل آمن للأجيال الجديدة.

والنتيجة يلخصها المثل العربي القديم: “ما أشبه الليلة بالبارحة”… وعندها سيعرف مَنْ لا يعرف أنه “أُكِل يوم أُكِل الثور الأبيض”.

9