حال الإسعاف في الهلال الأحمر الشيعي

لا نعرف بالضبط هل ما نواجهه الآن في الساحة السياسية هو نوع من الجمود، أم مرحلة تقليب ودراسة الخيارات.
لا يوجد ما لدى الفلسطينيين أن يقدموه، لا لمحاوريهم، ولا حتى لأنفسهم، فيما بينهم ككتلتين سياسيتين منقسمتين بين سلطة مهشمة بشكل شبه كامل في غزة، وأخرى تمعن في فرض فقدانها للحضور السياسي والمعنوي. يقف المفاوضون الفلسطينيون منتظرين فسحة تسمح بتحريك المشهد لعل الإسرائيليين والقطريين والمصريين، وقبلهم الأميركيين، يقولون للأطراف بأن شيئا يمكن أن يحدث.
خذ الموقف الإسرائيلي من جميع الأطراف. إسرائيل تمعن في تقتيل حماس وتدمر بنيتها التحتية في غزة (ولا تقصر لو أتيحت لها الفرصة في الضفة). السلطة الفلسطينية اختزلت نفسها بأنها -بكل بساطة- سلطة عباس. نواجه يوميا أزمة بين الشارع الفلسطيني وأفراد يمثلون السلطة. لا أحد يعرف بالضبط ما هو المطلوب، خصوصا وأن أيّ قوة إسرائيلية عندما تنطلق في أداء مهمة في الضفة، فإنها تتصرف بلا حد أدنى من المسؤولية، وأن من يموت في الضفة “الله يرحمه”، وأن من ينجو فالله “قد لطف” ونجّاه. الخطة بين إسرائيل والفلسطينيين، بما فيها من يلوم حماس أو يلوم السلطة ويتخذ موقفا أكثر تفهما من الإجراءات القمعية الإسرائيلية، هي خطة صفرية بلا أيّ علامة طريق دالة. الصدفة فقط هي خط الدلالة.
◄ الولايات المتحدة العظمى بطة عرجاء كما هو الحال كل موسم رئاسي مرة كل أربعة أعوام أو ثمانية، ومصر تختار أن تعرج مجاملة للبطة العظمى
عندما تستمع لأمين عام حزب الله نعيم قاسم وهو يتحدث عما مر من هدنة بين إسرائيل ولبنان وما هو قادم، فإنك تصدم. هل بوسع أحد أن يشرح لنا، ولو من باب الفضول، لماذا وقعت هذه الحرب وبهذه الشراسة التي أدت إلى قتل كل هؤلاء القادة، بل وحتى مقتل مهندس تشييد بنية حزب الله لما بعد 1992 أي حسن نصرالله “زعيم الانتصارات الكبرى” و“الهزائم النكبوية” معا. الخراب الذي ترك كركام للحرب شيء غير مسبوق حتى بمعايير بلد مهترئ كلبنان. هل كان الهدف من الحرب هو وصولنا إلى اللحظة الأبوية التي تترك فيها أمور حزب الله بيد رئيس البرلمان اللبناني وزعيم حركة أمل نبيه بري؟ ثم ترك الأمور لأيّ غاية؟ لانتخاب رئيس لبناني مثلا؟ هل كان ميشال عون شيئا بالأصل لكي تطلق من أجله أو من أجل أمثاله الحروب؟
نعيم قاسم اليوم يهدد باستعادة المبادرة وضرب الإسرائيليين إذا لم تفعل كذا وكيت. شيء مذهل هذا التجرؤ على الواقع والحقيقة ومحاولة إلباسها صيغة البطولة والإنجاز. هو نفسه نعيم قاسم الذي كان يفاخر بإيران ودعمها قبل أشهر قليلة، واليوم يتحدث من دون الحد الأدنى من التلويح بالتخويف بإيران وأحلافها المتراكبة مثل وحدة الساحات ونصرة المقاومة والكثير من المفردات التي تبدو اليوم أشبه بالهزل، لولا حرص الحوثي، الذي يحتمي بالجغرافيا والمسافات البعيدة، على الإبقاء على تلك المسميات حية ترزق.
الحوثي نفسه نكتة. هو يعرف أن الإسرائيلي يعتمد سياسة “إذا ضربت فأوجع” وليس إستراتيجية حوثية -إذا كان بوسعنا تسمية ما يجري بالإستراتيجية- تقوم على مبدأ “سجّل أنا موجود”. فقد ترك الحوثي حروبه الخاصة وانفتح يستعرض في البحار المحيطة على أمل تسجيل سابقة. نتحدى أيّ محلل سياسي أن يأتينا بقول: هذا ما يحدث الآن في اليمن والخطوة القادمة هي كذا أو كيت. لا شيء ننتظره من أي طرف هناك.
◄ الجولاني ترك لمجموعة من الشباب الذين تمرسوا في ساحات القتال ومباني المخابرات التركية والقطرية، جس النبض مع أهم شريكين فاعلين في المنطقة أي السعودية والإمارات
هذه الأطراف عاجزة لأنها بين خائفة ومنهكة. ما حدث لنظام الأسد والكيفية التي انهار بها لا يمكن الاستهانة بهما. كان أسوأ سيناريو مثلا أن يتعرض حزب الله إلى ما يشبه الدمار الذي تعرضت له حماس، فيهرب إلى “وحدة الساحات” في القصير أو وسط سوريا أو الابتعاد وصولا إلى دير الزور أو حتى داخل الحدود العراقية بحثا عن الأمان لدى حليفه الحشد الشعبي إلى حين يلعق جراحه. لا أحد يعرف عنوانا بريديا للرئيس السوري السابق بشار الأسد، وليس من الوارد أن تتدخل إيران في أي شيء الآن بعد أن فهمت القيادة في طهران أن مصير دولة المرشد نفسه على المحك. لا أثر لـ“سوريا الأسد” بالمطلق، ولا أثر لجغرافيا الهلال الشيعي (سنسميه مجازا أيضا بإمكانياته الإسعافية “الهلال الأحمر الشيعي”) الذي كان بوسع الجرحى في أيّ مواجهة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة أن يلجأوا إليه.
بعض المشاهد فيها كوميديا بصرية لا تستطيع أن تخرج منها بتفسير. ماذا تعني مثلا مكالمة هاتفية بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي. لعل أفضل ما يمكن أن يعمله بلينكن هو تجميع أوراقه وهو يرتحل لعله لا ينسى شيئا على مكتب وزير خارجية إدارة الرئيس القادم خلال أيام دونالد ترامب. أما عبدالعاطي، فعليه أن يفهم ماذا يريد منه الرئيس عبدالفتاح السيسي أولا في حالة الفوضى الكبيرة التي تواجهها مصر، وهي الدولة التي أمعنت في ترك الأمور على حالها طالما لا يوجد ما يهددها فيها بشكل مباشر. الولايات المتحدة العظمى بطة عرجاء كما هو الحال كل موسم رئاسي مرة كل أربعة أعوام أو ثمانية، ومصر تختار أن تعرج مجاملة للبطة العظمى. لعل وفاة الرئيس السابق جيمي كارتر أنقذت المشهد بعض الشيء إذا هناك ما تتلهى به محطات سي أن أن أو فوكس أو الجزيرة إنجليزي من جنازة ومراسم وحديث عن تأبين.
الطرفان اللاعبان في الساحة هما المجموعة السورية والحلف التركي – القطري.
قد يقول قائل إنهما سواء، أي مجموعة واحدة أو حلف واحد. أظن أن المجموعة السورية تابع لا يمكن مقارنته بصاحبي اللعبة، التركي أو القطري.
◄ المفاوضون الفلسطينيون يقفون منتظرين فسحة تسمح بتحريك المشهد لعل الإسرائيليين والقطريين والمصريين، وقبلهم الأميركيين، يقولون للأطراف بأن شيئا يمكن أن يحدث
السوريون يتجولون. بلـمح البصر (مقارنة مثلا بالنموذج العراقي الذي استلزم أشهرا)، صار لدى السوريين وزراء خارجية ودفاع ومخابرات، يستقلون طائرات خاصة ويتنقلون وهم يحملون توجيهات واضحة من “زعيم” يعرف ما يريد وله حضور و“مهابة” تكفل له قرار أن يصافح أو لا يصافح وزيرة الخارجية الألمانية الزائرة قبل يومين. الجولاني أو الشرع (والاسمان يستخدمان بحسب قرب المستخدم -أو قناته الفضائية- من السياسة التركية – القطرية) وضع خارطة طريق لا تقبل بوجود شركاء. ترك النجم السوري الصاعد لمجموعة من الشباب الذين تمرسوا في ساحات القتال ومباني المخابرات التركية والقطرية وتعلموا كيف ينفق المال ومتى في تحقيق الغايات، ترك لهم مهمة جس النبض مع أهم شريكين فاعلين في المنطقة أي السعودية والإمارات، ومهمة تسليم الشروط لجارين قلقين أي مصر والأردن. سنرى إلى ماذا ستؤول الأمور بعد الجولة الإقليمية، وما سيسمعه السوريون في محطاتهم الحقيقية (الرياض وأبوظبي)، والضمنية (الدوحة). لا السوريون مستعجلون على كشف أوراقهم ولا خط السعودية – الإمارات براغب في القول لأعداء الأمس هذه حدودنا.
محطة الدوحة في الجولة الوزارية السورية هي محطة تدقيق أوراق الملاحظات في اللحظات الأخيرة مع الحليف التركي -القطري. مرة أخرى لا أحد يبدو مستعجلا، خصوصا وأن عين الجميع على شاشة حفل القسم في واشنطن وجلوس الرئيس دونالد ترامب على كرسي الرئاسة ليبدأ العصر السياسي الحقيقي لإدارة أميركية شرسة تستعد لفرض الشروط أيا كانت رغبة الأطراف (ما عدا الطرف الإسرائيلي).
لك أن تختار تفسيرك وأن تقول إن ما يجري هو توقف عربة الإسعاف في “الهلال الأحمر الشيعي” لتحميل وتنزيل ضحايا ومصابي الحرب الكبيرة التي انطلقت مع انطلاقة “طوفان الأقصى”. هل هو جمود وتأنّ، أم التأكد من مصائر المنقولين في العربة. بعدها، لكل حادث حديث.