جيروم فيراري وإشكالية الإيمان
جيروم فيراري، روائي فرنسي وأكاديمي يدرس الفلسفة، وقد عرف بمواقفه الإيجابية من الثقافة العربية، حيث حاول أن يتعلم اللغة العربية، كما أقام لمدد زمنية في أكثر من بلد عربي وأقام علاقات فكرية مع عدد من المثقفين العرب.
حقق شهرته كروائي حين نالت روايته “العظة حول سقوط روما” جائزة غونكور في العام 2012، وكانت روايته “حيث تركت روحي” قد نالت جائزة تلفاز فرنسا لأفضل رواية في العام 2010، التي ترجمها إلى العربية محمد صالح الغامدي، وصدرت في العام 2016 عن دار مسكيلياني، وهذه الرواية تناولت ممارسات القمع والتعذيب التي تعرض لها جزائريون على أيدي العسكريين الفرنسيين، إبان الثورة الجزائرية.
كما عرفنا ذلك في شخصية طاهر، التي تتمثل شخصية القائد الجزائري محمد العربي بن مهيدي، حيث أشار إلى هذا التمثل بعض من تناول هذه الرواية، وفيها يطرح جيروم فيراري قضية على قدر من الجدة والأهمية، وهذه القضية تتناول علاقة ملتبسة بين الإيمان والعنف، في أكثر من ميدان، فكري أو عملي، بمعنى أن يكون الإيمان غطاء لممارسة العنف أو الظلم أو الانحراف، فلا يجد من يمارس العنف بمسوغات الإيمان رادعاً أخلاقياً يحول بينه وبين هذه الممارسة، بل طالما كانت هذه الممارسة ترضي من يمارسها إذْ يعدها مما يؤكد إيمانه.
والإيمان هنا ليس الإيمان بالله، وإنما هو الاعتقاد في فكرة أو ممارسة من دون مراجعة أو نقد أو احتكام إلى العقل، وتَحوّل هذا الاعتقاد إلى مايشبه المطلق، ومن ثم الإقدام على اتخاذ مواقف والقيام بأعمال تجافي العدالة والموضوعية ومعايير العقل.
لقد جاء في رواية “حيث تكون روحي” حوار بين المعتقل الجزائري، طاهر، والضابط الفرنسي النقيب دوغورس.
يقول طاهر “أعتقد أنك في حاجة إلى الإيمان أيها النقيب، حاجة ضرورية إلى الحياة، وقد فقدت الإيمان ولا يمكنك إيجاده من جديد، لأن كل ما تقاتل من أجله لم يعد له وجود أصلاً، وأنا آسف لأجلك”. ثم يقول طاهر “الإيمان لا يبرر شيئاً، هذا ليس دوره”.
نعم، لقد كان الضابط الفرنسي يمارس العنف، القتل والتعذيب، وهو يعتقد أن ما يؤمن به هو دافعه إلى تلك الممارسات، لكن بعد أن ثبت أن ما كان يعتقد فيه ليس صحيحاً، فينبغي له أن يبحث عن إيمان، غير الإيمان الذي عرفه وعاشه من قبل.
إن الإيمان الذي يظهر في الاعتقاد في فكرة ما، والثقة بها، يتغير بين مرحلة وأخرى، وبين مكان ومكان، وإن الذين لا يدركون هذا التغيير، يعيشون بعيداً عن الحياة أو على هامشها، حيث لا يدركون جوهرها، مثلما لا يدركون جوهر الإيمان، أو يتحولون إلى أداة تخريب للواقع والفكر والقيم.
وكما يقول جيروم فيراري على لسان القائد العسكري وهو يخاطب جنوده “إن العذاب والألم ليسا المفتاحين الوحيدين لسبر أغوار الروح، بل هي أحياناً بلا جدوى، لا تنسوا أن هناك مفاتيح أخرى، الحنين، الكبرياء، الحزن، العار، الحب، انتبهوا جيداً للشخص الماثل أمامكم، لا تتشبثوا بآرائكم من دون فائدة، ابحثوا عن المفتاح، يوجد دائماً مفتاح”.
إن من أخطر حالات الخراب التي تعرضت لها الحياة الإنسانية منذ طفولتها حتى الآن، هي الحالات التي يتحول فيها الإيمان- الاعتقاد، إلى فعل عدواني، والذين يمارسون هذا الفعل يقرّون عن قناعة بأنهم في ما يفعلون يؤدون واجبهم المقدس نحو هذا الإيمان- الاعتقاد.
أما إذا اقترن الإيمان-الاعتقاد بالوظيفة كما هو الحال مع العسكريين الفرنسيين في رواية “حيث تركت روحي” فتلك هي الطامة الكبرى، وفيها يفقد المرء كل ما يمت إلى الإنسان بصلة، ويتحول إلى فعل تدمير، بإرادة غيره وبأمر سواه.
كاتب عراقي