جيروم فالكه رجل الفيفا القوي الذي أطاح به بريده الإلكتروني

"مثير جدا ما تكتشفه من حقائق وأنت تسقط”، جملة وردت في أحد مشاهد الفيلم الملحمي للمخرج فرانسيس كوبولا “الأب الروحي” على لسان أحد أفراد عصابة كورليوني، وهو ينتظر القتل بعد اكتشاف خيانته السابقة لرئيس العائلة مايكل (آل باتشينو)، تنطبق بدرجة كبيرة على الفرنسي جيروم فالكه الأمين العام الموقوف للاتحاد الدولي لكرة القدم.
ففي لحظة السقوط تكتشف أن أقرب الناس من حولك، ساهموا بعمد أو من دونه في إسقاطك طلبا لمكسب أو دفعا لأذى، وفي نفس اللحظة تفاجأ بالعديد من اللصوص يفضحون الجرائم التي شاركوك في تنفيذها مع استعدادهم لتحمّل العقوبات، ما يدفعك للتساؤل عما أيقظ ضمائرهم فجأة دون سابق إنذار.
ما سبق يمكن أن يقدّم ملخصا قريبا من الدقة لقصة صعود وهبوط جيروم فالكه، داخل مؤسسة كرة القدم الدولية، الذي تحوّل بين عشية وضحاها من الرجل القوي في الفيفا، إلى مدان محتمل دفعه حلفاؤه القدامى إلى حفرة النار، ثم تكالب عليه داخلها شركاء عملياته المشبوهة السابقين لضمان أن تصل النار إلى كل قطعة في جسده للقضاء على أيّ أمل في نجاته من الحرق.
الموقوف
رغم ضبابية المشهد المحيط بفالكه حتى الآن، بعد قرار المؤسسة الكروية العالمية إيقافه وتحويله للجنة الأخلاقيات التابعة لها للتحقيق معه، في الاتهامات التي ترددت حوله، إلا أن الهمس الذي يدور في جنبات المقر الفخم للاتحاد الدولي في زيوريخ يجمع على أن الفرنسي المتعجرف راح ضحية تمرّده المبطن على الأب الروحي ورئيس عائلة الفيفا العجوز بلاتر، الذي يعيش مرحلة تقديم القرابين للمؤسسات القضائية الأميركية والسويسرية التي تطارده، أملا في أن يحصل على صفقة يعفى بموجبها من المحاكمة.
لكي تبدو الصورة أكثر قربا لا بد من ملاحظة ومقارنة، الملاحظة أن قرار الفيفا بإعفاء فالكه من منصبه وتحويله للتحقيق استند فقط إلى كلام جرائد حمل اتهامات مرسلة للفرنسي، سواء في قضية تورطه في تحويل مبلغ العشرة ملايين دولار من جنوب أفريقيا لجاك وارنر “بالوعة” رشاوى الفيفا السابق، أو في الاتهامات التي كالها له بني عالون المستشار الحالي في شركة “جي بي” للتسويق الرياضي المتخصصة، من أن شركته حاولت بيع بعض بطاقات الدخول إلى أماكن كبار الضيوف بثلاثة أضعاف سعرها الحقيقي، بموافقة فالكه خلال مونديال البرازيل.
وكانت المفاجأة حين استقبل فيها المتابعون للكرة العالمية قرار إعفاء فالكه من منصبه ومرده مواقف الفيفا السابقة من أمينه العام الذي يوصف بأنه صبي بلاتر وخزانة أسراره، ففي عام 2006 عندما كان بلاتر لا يزال في عنفوانه، سمح للفرنسي بالبقاء في منصبه متحديا قراراً كان قد أصدره قاض في نيويورك ضد فالكه بعدم الأهلية للمنصب، بسبب كذبه فيما يتعلق بصفقة عقد رعاية ماستر كارد لمسابقات فيفا، وهو الموقف الذي أكسب الأمين العام المعفى لقب “تيفلون فيفا” أي رجل فيفا الذي لا تهزه عواصف الانتقادات أو تؤثر في سمعته.
منذ توليه منصب الأمين العام للفيفا عام 2007 خلفا لأورسي لينز، نجح فالكه في أن يكون الذراع اليمنى لجوزيف بلاتر، ومهندس جميع صفقات الاتحاد الدولي فيما يتعلق بالاستثمار ومشاريع كرة القدم، إضافة إلى تحمله نيابة عن الثعلب العجوز الكثير من الصدمات والعواصف.
لكن الهمس الذي يدور داخل الفيفا يتحدث عن أن بلاتر قرر التضحية بتلميذه بعدما تمرد الأخير على دور “صبي المعلم” طمعا في دور المعلم نفسه، دون أن يدرك أن إدارة ورشة الكرة العالمية لا تحتاج فقط مهارات إدارية وفنية، بقدر ما تحتاج إلى “تربيطات” تحت الطاولة.
تسعة أمناء يتعاقبون على الفيفا أشهرهم بلاتر الذي ينجح في تغيير معايير المنصب وطموحات شاغليه، ليأتي فالكه متأملا السير على خطى العجوز معتقدا أن كل من عوى يصلح أن يكون ثعلبا
ما تيسر معرفته أو استنتاجه أن فالكه وجد الساحة فارغة من المعلمين سوى من مواطنه وشريك العمليات القذرة السابق ميشيل بلاتيني، فسمح لحلم الترقي بأن يلعب برأسه ليفكر في طرح اسمه كمرشح محتمل لرئاسة الفيفا، وبالفعل بدأ في استطلاع رأي عدد قليل من المقربين منه من رؤساء الاتحادات القارية والوطنية، حول مدى تأييدهم له في حال ترشحه للمنصب.
ولكن لأن الصبي لا يستطيع اكتساب مهارات المعلم كلها مرة واحدة، فقد وقع في عدة أخطاء فتحت عليه نار جهنم، أولها خسارة أيّ إمكانية لعقد صفقة مع بلاتيني يتحالفان بها ضد بلاتر، مقابل أن يضمن أحدهما للآخر التغطية على ملفاته الفاسدة.
والثاني أنه خسر تعاطف بلاتر نفسه الذي اكتشف أن الصبي طامع في “الورشة” ما يعني في أعراف المعلمين أنه أصبح خطرا محتملا، فكان أن ألقى به الثعلب العجوز في “غياهب الجب”، رغم أنه ظل حتى قبل أيام من قرار إعفاء فالكه من منصبه يدافع عنه، لدرجة أنه أصدر بيانا واضحا باسم الفيفا ينفي فيه تورط أمينه العام في معاملات مصرفية بقيمة عشرة ملايين دولار، تدور حولها التحقيقات في قضية الرشوة، مؤكدا أن العملية التي كانت عبارة عن تبرع من اتحاد الكرة في جنوب أفريقيا تحت ستار “مساعدة الشتات الأفريقي في الكاريبي” تمت إجازتها عن طريق رئيس اللجنة المالية بالفيفا في ذلك الوقت، وتم تنفيذها وفقا للوائح الاتحاد الدولي.
كما دعمه بلاتر مجددا، عندما وافق على صرف مبلغ 5 ملايين يورو لأمينه العام تعويضا له عن 3 سنوات من عقده، بعد استقالة السويسري وتحديد موعد للانتخابات الرئاسية في فبراير المقبل، قبل أن ينقلب عليه بسبب تصرفاته الرعناء.
الخطأ الثالث أنه بمناورته التي تفتقد للذكاء جذب الانتباه لدوره غير المعروف في فساد الفيفا، حيث كانت الهيئات القضائية التي تلاحق بلاتر تركز مطارداتها على كبار المسؤولين، في وقت كانت تعتبر فيه فالكه مجرد موظف مهم في الاتحاد الدولي، لكنه نجح برعونته في لفت الأنظار إليه كواحد من عصابة بلاتر.
معارك قذرة
مثل بلاتر نفسه وبلاتيني وغيرهما من كبار مسؤولي الفيفا، وقف الفرنسي فالكه ليصرح للصحفيين بكل عجرفة قائلا “إنه فوق الشبهات وغير مضطر حتى لتبرير مواقفه”، دون أن يدرك أن الدنيا تغيرت وسقطت عن الجميع الحصانة التي ظلوا يتمتعون بها لسنوات طويلة.
لكن أطرف ما في الاتهامات المحيطة بفالكه أنها مرتبطة بزلات إلكترونية، حيث يبدو أنه لا يستطيع التحكم في تعبيراته في رسائل البريد الإلكترونيلتي يتبادلها مع غيره، لدرجة أن القضيتين اللتين ورد اسمه فيهما، كانت تلك الرسائل هي الدليل الأساسي ضده.
ففي قضية العشرة ملايين دولار المتهم فيها مع التريندادي جاك وارنر رئيس اتحاد الكونكاكاف السابق الذي تمت معاقبته قبل أيام بحرمانه من العمل في منظومة الكرة العالمية مدى الحياة، رصدت جهات التحقيق الأميركية والسويسرية رسائل بريدية متبادلة بين فالكه ووارنر اتخذتها دليلا لإدانة التريندادي ومعاقبته، وكذلك توجيه الاتهامات إلى فالكه.
وفي قضية بيع تذاكر بعض مباريات مونديال البرازيل بثلاثة أضعاف سعرها، عرض بني عالون مستشار شركة “جي بي” للتسويق الرياضي عدة رسائل إلكترونية من فالكه أرسلها له تظهر أنه كان على علم بالأمر وغير معترض عليه.
خطأ كبير يؤخذ على فالكه أنه بمناورته التي تفتقد الذكاء جذب الانتباه لدوره غير المعروف في فساد الفيفا، حيث كانت الهيئات القضائية التي تلاحق بلاتر تركز مطارداتها على كبار المسؤولين، في وقت كانت تعتبر فيه فالكه مجرد موظف مهم في الاتحاد الدولي
رسائل فالكه الإلكترونية تكشف حجم رعونته، ربما بأكثر مما تكشفه تصرفاته الأخيرة، فقد عرض وارنر خلال التحقيق معه رسائل من الأمين العام “الموقوف” تكشف أنه كان يعلم مسبقا نية الفيفا منح استضافة مونديال 2022 لقطر، وتوضح رأيه في أن الدولة الخليجية الصغيرة اشترت تنظيم المونديال.
في هذا الصدد لا يمكن تجاهل الموقف المتناقض لفالكه تجاه ترحيبه أو على الأقل صمته على ما يزعم أنه شراء قطر لتنظيم للمونديال، مقابل عنفه الواضح تجاه ترشح القطري محمد بن همام لرئاسة الفيفا في انتخابات 2011، فقد استنكر ترشحه بحسب ما كشفت رسائله البريدية أيضا، وقال في رسالة موجهة لوارنر نفسه “لم أفهم على الإطلاق لماذا رشح نفسه.. هل يظن حقا أن أمامه فرصة أم أن ترشيحه هو وسيلة متطرفة للتعبير عن أنه لم يعد يتقبل جوزيف بلاتر بعد الآن.. أم يعتقد أن بإمكانه شراء الفيفا مثلما اشترى كأس العالم”.
تجلّى عنف فالكه ضد بن همام في الموقف المتشدد للجنة القيم من القطري، بعد أن عاقبته بالإيقاف مدى الحياة، وحرمانه من ممارسة أيّ أنشطة تتعلق بكرة القدم، بناء على مجموعة من الشكوك غير المدعومة بأدلة، وهو قرار أعلن بن همام أن وراءه فالكه نفسه الذي أثبت أنه صاحب النفوذ الأكبر في هذه اللجنة.
على خطى بلاتر
منذ إنشاء الفيفا عام 1904 تعاقب على شغل منصب أمينه العام 9 أشخاص كلهم ينتمون لدول أوروبية، أطولهم بقاء هو الهولندي فيلهلم هيرشمان الذي استمر في منصبه 25 عاما كاملة بين 1906 و1931، لكنّ أشهرهم بالطبع هو السويسري بلاتر الذي نجح في تغيير معايير المنصب وطموحات شاغليه بعد سنوات قليلة من بدء عمله عام 1981، وبعده يأتي جيروم فالكه الذي كان يأمل في السير على خطى العجوز معتقدا أنّ كل من عوى يصلح أن يكون ثعلبا.
لكن الواقع يكشف فروقا كثيرة بين الاثنين، فبلاتر نجح في أن يظهر في أغلب سنوات عمله الـ17 جنبا إلى جنب مع البرازيلي العجوز هافيلانج، وعندما حان وقت رحيل الأخير، كان بلاتر قد مهد الأرض لخلافته مطيحا في الانتخابات الرئاسية التي جرت صيف 1998 بأخطر منافسيه السويدي لينارت يوهانسون رئيس الاتحاد الأوروبي وقتذاك.
في تلك الانتخابات بدأ الفساد داخل الفيفا يتحول من تصرفات عارضة إلى سلوك مؤسسي، بعدما نجح بلاتر في الحصول على منصبه بالرشاوى، وهو ما فعله في كل الاستحقاقات الانتخابية التالية، وهي مسألة اعترف بها مثلا الليبي الساعدي القذافي، في حوار لمجلة سوبر الإماراتية قبل سنوات، حين روى دوره في دفع أموال لرؤساء اتحادات وطنية فقيرة من أجل التصويت لبلاتر في انتخابات عام 2002.
أما فالكه الذي يحتفل بعيد مولده الخامس والخمسين بعد أيام (مواليد 21 أكتوبر 1960) فقد استخدمه بلاتر ليتصدى لعملياته القذرة، مثل إدارة عمليات شراء الأصوات في الانتخابات، وتوجيه أعضاء اللجنة التنفيذية بالفيفا مع أو ضد ملف معيّن، خلال التصويت على استضافة البطولات الدولية خصوصا المونديال، وهي مهمات ظن الفرنسي أنها انعكاس لثقة السويسري فيه حتى أنه اعتاد القول “أنا وبلاتر تربطنا علاقة جيدة، وقريبان من بعضنا البعض، وقد فعلت الكثير للفيفا”، قبل أن يدرك في وقت متأخر حقيقة تورطه نيابة عن بلاتر.
على عكس سلفه أورسي لينز الذي قضى في منصبه 5 سنوات دون أن يسمع به أحد، وسابقه ميشيل روفينين الذي أبعده بلاتر من وظيفته، بعد أن اتهمه علنا بالفساد وشراء الأصوات في انتخابات 1998، اختار فالكه أن يراهن بكل أمواله على الحصان الرابح، وقد عاد عليه ذلك بالكثير من المزايا طوال 8 سنوات، لكن كان عليه إدراك أنه في وقت ما سيدفع ثمن ما حصل عليه بطريق الهبة.