"جيرغا" مرثية للثقافة الأفغانية وتصويب لصورة المسلمين

المخرج الأسترالي بنجامين غيلمور مهموم باكتشاف الوجه الآخر للعالم الإسلامي، للثقافة الإسلامية، الوجه الذي لا يعرفه الغرب أو لا يريد أن يراه، فهو يريد أن يقول للغرب إن المسلمين ليسوا جميعا إرهابيين أو داعمين للإرهاب، كما تصوّرهم وسائل الإعلام.
بعد فيلمه الأول “ابن أسد” (Son of A Lion (2007 الذي صوّره في باكستان، ها هو المخرج الأسترالي بنجامين غيلمور يعود بفيلمه الروائي الثاني “جيرغا” (Jirga) الذي صوّره في أفغانستان، وهو الفيلم الذي تقدّمت به أستراليا رسميا لتمثيلها في مسابقة “الأوسكار”.
بنجامين غيلمور مغامر كبير. فقد عمل لسنوات مشرفا طبيا في سيارات الإسعاف، واكتسب خبرة ومعرفة بالناس والمجتمع، لكنه أراد أن يتجاوز أسوار الواقع المحلي، ففي 2001 غادر أستراليا إلى باكستان والهند على متن دراجة بخارية. وهناك التقى بضابط مخابرات باكستاني سابق أخبره أن شيئا كبيرا سيحدث وسيورط أميركا في حرب طويلة.
وبعد أسابيع وقعت تفجيرات 11 سبتمبر، وشنّت أميركا حربها التي لا تزال مستمرة “ضد الإرهاب” بكل ما صاحبها من دعاية إعلامية أساءت كثيرا إلى صورة المسلمين في العالم.
مغامرة خطيرة
أراد بنجامين غيلمور أن يصوّر فيلما يكشف الوجه الآخر لحياة المسلمين، فعاد إلى باكستان في 2005 حيث قضّى عدة أشهر أقام خلالها علاقات عديدة مع السكان المحليين، كما ارتبط بصداقة خاصة مع أحد كبار الملاك هناك، وهو الذي سيقدّم له الدعم والحماية ويساعده في تصوير فيلمه الأول في إحدى القرى الباكستانية بميزانية ضئيلة للغاية (أقل من 3 آلاف دولار) مستعينا بعدد من سكان إحدى القرى، للتمثيل في فيلمه.
قام غيلمور بتطوير سيناريو الفيلم مع سكان القرية النائية التي وقع عليها اختياره، فقد غامر بتصوير الفيلم دون تصريح من السلطات، ودون معرفة من جانب كبار رجال قبائل البشتون. ويدور الفيلم حول شاب أفغاني صغير مرغم على الالتصاق بوالده الذي كان مقاتلا سابقا في صفوف طالبان ثم تخلّى عن القتال، وعاد للعمل في ورشة لصنع البنادق في القرية، لكن ابنه يريد أن يواصل تعليمه.
وكان القصد من الفيلم تصوير الوجه الإنساني لسكان تلك المناطق على الحدود بين باكستان وأفغانستان التي أصبحت عرضة للغارات الأميركية. وقد تعلّم المخرج خلال تجربته هناك بعضا من لغة البشتون، ولكنه يروي في ما بعد قصصا مرعبة عن المصير الذي آل إليه بعض من ظهروا في فيلمه.
عاد غيلمور إلى أفغانستان في 2018، إلى العاصمة كابول، لتصوير فيلمه الجديد “جيرغا” ومعه ممثل أسترالي واحد هو سام سميث، واستعان بالأهالي من المناطق التي سيصوّر فيها كممثلين، كما شارك في الفيلم مترجمه الخاص، وصوّر الفيلم بكاميرا رقمية صغيرة، ولكن المغامرة كانت أكبر وأكثر خطورة، فقد قرّر أن يصوّر، ليس فقط في كابول، بل وفي معقل طالبان في قندهار.
الموضوع يدور حول جندي أسترالي اسمه “مايك” نراه في بداية الفيلم يشارك في غارة ليلية على منطقة سكنية في أفغانستان. يخرج رجل من داره، يطلق عليه النار بشكل تلقائي ظنا أنه مسلح. تخرج زوجته وأبناؤه يسحبون جثته إلى الداخل. يتبيّن أن الرجل من المدنيين ولم يكن مسلحا.
وبعد مرور ثلاث سنوات يعود مايك إلى كابول. يتصل بضابط أفغاني سابق كان يعرفه يذكره بوعده له بتسهيل مهمته. يعتذر له الرجل ويقول إن المدينة التي يرغب في الذهاب إليها خطرة.
يحمل مايك حزمة كبيرة من الدولارات التي يلفها حول وسطه. يستأجر غرفة في فندق متواضع، يخفي الدولارات. يسعى لاستئجار سائق ينقله مقابل مبلغ مالي كبير. يرفض الرجل بشدة فمايك يريد الذهاب إلى قندهار. وهي معقل مليء بالمسلحين. تحت الإغراء يوافق على أن يتوقّف على مسافة من قندهار ويتركه وحده.
تسامح متبادل
حتى ما بعد منتصف الفيلم لا نعرف ماذا يريد مايك، ولماذا عاد، وما هي مشكلته بالضبط؟ سنكتشف بعد قليل من خلال رحلة الطريق التي تتخذ طابعا استكشافيا، يحيط بطبيعة المنطقة وأناسها من قبائل البشتون، أننا أمام شعب بسيط طيب يحافظ على ثقافته وتراثه، ويعتز بتقاليده.
السائق العجوز الذي يقود التاكسي لمايك (لا نعرف اسمه) يغني له بعض الأغاني المحلية. لا توجد لغة مشتركة بينهما. تصبح الأغاني هي البديل. يتوقفان في بقعة بديعة بها بحيرة. يتحرّر مايك من ملابسه ويسبح في البحيرة ليشعر بالانتعاش والنشوة. يشعل السائق نارا ويطهو بعض الطعام المحلي الذي يتناوله الاثنان. يتناول مايك القيثارة العتيقة ويعزف بعض الأغاني. إنها وسيلة التواصل في ما بينهما. لقد أصبح يتعيّن على مايك أن يقطع الطريق الرملي الممتد داخل الصحراء وحيدا لكي يصل إلى وجهته.
مجموعة من مسلحي طالبان تقبض عليه ويتعرض للتعذيب والإهانات. يقول لهم إنه جاء للتكفير عن ذنبه، عن قتله لرجل بريء.. يريد دفع الدية لأسرته. يأمر زعيم المجموعة المسلحة بعدم تعرضه للأذى بعد أن أيقن أنه رجل سليم الطوية، ولكنه ينصحه ويحذره من مغبة ما يعتزمه. فالقبائل هنا لا تسمح لها كرامتها بتلقي البدل النقدي لقتلاها. إنها إهانة كبيرة عندها. لكنه يريد أن يعتذر. سيوصلونه إلى عائلة الرجل التي فقدت عائلها لكي يلتقي وجها لوجه مع الابن الأكبر للرجل وزوجته وليحدث ما يحدث.
هذا فيلم عن التسامح: فمايك مدفوع بنزعة دينية، يؤمن بالتكفير، بضرورة أن يدفع ثمن ما جنته يداه، لكنه يختار طريقة قد يقبلها الناس في أماكن أخرى، ولا تقبلها قبائل البشتون أي دفع الدية. لكن الدولارات ستطير في الهواء ولن تعود لها قيمة بل تصبح القيمة هي الإخلاص للنوايا، فهو سيخضع في القرية التي تعرضت للغارة ومارس فيها فعل القتل (الخطيئة المحرمة، المحظورة دينيا حسب الإنجيل) لمحكمة يطلقون عليها “جيرغا” أي مجلس الحكماء.
ويصدر الحكم، يترك أمره لعائلة القتيل تقرّر ما تفعله به. سيركع أمام ابن الرجل المتوفى ويقبل بمصيره.
التسامح مردود ومتبادل، فالمسلمون الذين يتمسكون بتقاليدهم وعاداتهم يتشبثون أيضا بتقاليد العفو عند المغفرة. والفيلم بأسره مكرّس لتصوير تلك الروح الطيبة التي تمتد لتشمل حتى مسلحي طالبان الذين يقولون له إنهم يدافعون عن أراضيهم وعائلاتهم ضد غزو الأجنبي الذي تقتل طائراته عشوائيا. يحدثونه عن أحبائهم الذين فقدوهم. ويحدثه رجال القبيلة التي يذهب إليها عن الزوجات اللاتي فقدن أزواجهنّ من دون ذنب أو جريرة.
وجه إنساني
إننا نشاهد في فيلم “جيرغا”، الوجه الإنساني الآخر للمرة الأولى في أحد الأفلام عن الحرب، عن النزاع المسلح المستمر في أفغانستان. وكما أن الفيلم تصوير للوجه الإنساني المتسامح للأفغان، فهو أيضا يجسد للمرة الأولى، الشعور بالذنب والرغبة في التكفير عند “الآخر” الجندي، الغازي، الذي خاض حربا لا ناقة له فيها ولا جمل، في بلاد لا يعرف عنها شيئا، لا يمكنه أن يسبر أغوارها وحده، وهو يعود مصرّا على تقديم الاعتذار، إلى البلد الذي يجهل لغته وطبيعته، يتذوّق طعام أهل البلد الذي يبدو “غريبا” فيجده طيبا لذيذا، يستمع لأغانيهم فيجدها بديعة، تجذبه موسيقاها، تسره الطبيعة، يتطلع إلى وجوه الحكماء فيجد أنهم أناس يحملون حكمة التاريخ فوق ظهورهم التي أحناها الزمن.
الفيلم من النوع البسيط minature، الكلمات فيه قليلة، والمشاهد محدودة، والتمثيل يعتمد على قدر كبير من الارتجال، تماما مثل الحوار نفسه، وغالبية الممثلين من السكان.
هناك في البداية تصوير شديد القوة والحيوية لمناظر السوق حيث يتجوّل مايك، ويشتري آلة قيثارة عتيقة، كما يحاول الاتصال بصديقه الضابط الأفغاني. هنا يخلق المخرج من خلال الإيقاع وزوايا التصوير والكاميرا المتحركة المهتزة المحمولة، إحساسا بالغموض والإثارة. يتساءل المشاهد لماذا عاد مايك وما هدفه، وهل سيعمل في تهريب المخدرات مثلا؟
الكاميرا المحمولة المتحركة تضفي طابعا تسجيليا على تلك المشاهد الأولى وعلى الكثير من المشاهد التالية، والمخرج هو نفسه المصوّر، والظروف السرية الشاقة التي صوّر فيها فيلمه دفعته أيضا لهذا الأسلوب الذي أضفى صدقا واقعيا على الفيلم، وأتاح له الفرصة لاختطاف اللقطات والمشاهد من دون إعادات كثيرة.
يبدو الفيلم أولا أقرب إلى أفلام الطريق، ثم يصبح مرثية حزينة لحضارة كان لها زمانها ثم تدهور بها الحال لكنها مازالت تعتز بنفسها. إنه دون شك “فيلم رسالة”، هذه الرسالة تقول للمشاهد الغربي إن المسلمين البسطاء في تلك المنطقة يريدون العيش في سلام، وإن على الغرب أن يتركهم وشأنهم. ولكن هل تلخص هذه الرسالة كل تعقيدات الواقع القائم حاليا والتباساته؟