جولة ترامب الخليجية: مكاسب حينية وأخرى إستراتيجية

دول الخليج التي استقبلت ترامب وضخت تريليونات تضع استثماراتها العملاقة ضمن خطط الاستعداد لمرحلة ما بعد النفط بدلا من الاستمرار في إنفاق عائدات النفط والغاز وانتظار المجهول.
السبت 2025/05/24
انتهى عصر الإملاءات في الخليج

يدور حديث كبير عن نجاح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في جمع أموال كثيرة من الخليج، ويتم تسخيف الأمر إلى درجة أن تلك الأموال تصبح إنفاقا على حرب إسرائيل على غزة في ربط بهلواني عجيب. ما لا يريد كثيرون أن يروه أن الأموال الخليجية ليست هبات ولا تبرعات لأجل عيون ترامب، هي استثمارات خليجية في الاقتصاد الأميركي، مثلما هناك استثمارات خليجية في الصين والهند وتركيا وأوروبا وأماكن أخرى كثيرة.

استثمارات الخليج في أميركا مشاريع مستقبلية سيكون لها تأثير اقتصادي وسياسي على المدى المتوسط والمدى الطويل. لو كانت هبات أو تبرعات أو إتاوات، كما يزعم البعض، لكانت تتم كل عام بمناسبة ودون مناسبة ومع أي رئيس.

لماذا الاتفاق على الصفقات الحالية تم مع ترامب وليس مع جو بايدن أو بارك أوباما لو كان الأمر بهذا الاستسهال في الاستنتاج.

بايدن وأوباما وغيرهما من الديمقراطيين كانوا يتعاملون مع الخليج من فوق باعتماد “النفخة الكذابة”، يريدون أموالا وصفقات ومشاريع وفي نفس الوقت يوجهون انتقادات للدول التي تضخ الأموال. إدارة بايدن وجهت انتقادات لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في قضية خاشقجي، ولوحت برفع المظلة الدفاعية الأميركية عن الخليج ونقلها إلى شرق آسيا، فماذا تريد أن يكون موقف دول الخليج، هل تنفق على من يهدد بالتخلي عن أمنها الدفاعي، من سيقبل بهذا؟ لا شك أن لا أحد.

ما يمكن قراءته من وراء هذه الأرقام الكبيرة أن دول الخليج تؤسس لإستراتيجية التأثير المالي في الاقتصاد العالمي ما يمكنها مستقبلا من التأثير في قضايا مختلفة سياسية واقتصادية ومناخية

الأمر بالنسبة إلى ترامب مختلف، فالرجل حين زار الدول الخليجية الثلاث، السعودية وقطر والإمارات، أشاد بقادتها، وحكمتهم ونجاحهم الاقتصادي وأدوار دولهم في الإقليم وحاجة الولايات المتحدة إلى ذلك. خطاب يؤسس للندية واعتبار الشراكة مصلحة متبادلة على المدى البعيد.

ولا شك أن هذا الموقف ليس جزءا من مزاجية ترامب، بل هو استنتاج مراكز التفكير التي ترسم سياسات الولايات المتحدة بأن واشنطن تكاد تخسر دول الخليج بسبب سياسات بايدن الاستعلائية. الخليجيون اختاروا ردا هادئا يقوم على تنويع الشركاء في المجالات المختلفة بما في ذلك الأكثر حيوية مثل صفقات السلاح، فتحوا قنوات جدية مع الصين والهند وروسيا ودول أوروبية، وهو وضع بات يهدد مصالح الشركات الأميركية.

ما يمكن قراءته من وراء هذه الأرقام الكبيرة أن دول الخليج تؤسس لإستراتيجية التأثير المالي في الاقتصاد العالمي ما يمكنها مستقبلا من التأثير في قضايا مختلفة سياسية واقتصادية ومناخية، تماما مثلما يحصل الآن مع الصين وبدرجة أقل مع الهند.

الاتجاه العالمي يتغير باتجاه تأثير القوى المالية على التحالفات الاقتصادية، ولو أخذنا مثال مجموعة بريكس التي تأسست من أجل استيعاب القوى الاقتصادية الناشئة المناوئة لأميركا ومجموعة العشرين، ووضعت مقاييس صعبة لكن الحاجة إلى الاستثمارات دفعتها إلى الاستنجاد بدول الخليج، عرضت العضوية على الإمارات والسعودية، ما يؤكد أهمية ووزن القوى المالية الصاعدة، التي ستكون دول الخليج في قلبها.

كما أن دول الخليج التي استقبلت ترامب وضخت تريليونات تضع استثماراتها العملاقة ضمن خطط الاستعداد لمرحلة ما بعد النفط بدلا من الاستمرار في إنفاق عائدات النفط والغاز وانتظار المجهول كما يحصل مع دول عربية أخرى منتجة للنفط والغاز لا تزال تعتقد أن النفط أبدي.

إن التهيؤ الخليجي للمستقبل عبر توظيف عائدات النفط والغاز وانخراطهم في الاقتصاديات العالمية شرقا وغربا والنأي بأموالهم عن الفساد الذي ينخر اقتصاديات إقليمية أخرى يجعلهم في واد وبقية العرب في وادي آخر. فريق يضع نفسه على طريق التأثير في المستقبل، وفريق أقرب إلى المرجئة الذين ينتظرون بعقلية “يا خبر بفلوس بكرة بلاش”.

من هنا يمكن فهم توجه ترامب للخليج كأول وجهة رسمية له (عدا زيارته للفاتيكان بعد وفاة البابا فرنسيس، وهي زيارة لا علاقة لها بالسياسة). هناك شركاء أوروبيون أو شركاء في الناتو مثل تركيا أو بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ودول تقليدية مؤثرة في الشرق الأوسط مثل مصر. اختار الرئيس الأميركي زيارة الخليج ليس فقط لأجل الصفقات، وإن كانت عنصرا مهما، ولكن لأن الخليج بات شريكا مهما في إستراتيجيات الأميركيين، والحفاظ عليه مطلب أميركي أساسي.

لقد كشفت جولة ترامب أن أميركا بدأت تستوعب التغييرات الجذرية التي تجري لدى شركائها في الخليج، تغييرات في القناعات والثقة بالنفس، وقوة ترامب في أنه التقط الإشارات وسعى للحفاظ على العلاقة بهؤلاء الشركاء دون إملاءات

حصل الخليجيون من خلال الصفقات التي تم إبرامها خلال زيارة ترامب على صفقات كبرى بعضها يتعلق بتحسين أداء شركات الطيران والبعض الآخر بتحسين القدرات الدفاعية، والأهم هو البعض الثالث الذي يتعلق بالشراكة في التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي، الذي يجعل دولة مثل الإمارات تهيئ نفسها لأن تكون أحد أبرز المراهنين على أدوات السيطرة في المستقبل.

والمفارقة هنا أن الإمارات، التي تنفق بسخاء على الشراكة الإستراتيجية مع أميركا في مجال التكنولوجيا، ترفض أن يكون الأميركيون المصدر الوحيد واستمرت شراكتها مع الصين وبنفس الرهان الإستراتيجي، أي لا تراجع عن تنويع الشراكات والاستفادة من الفرص حيثما كانت.

لو أن الخليجيين تابعون لأميركا، كما يستسهل بعض العرب إطلاق التوصيفات والاتهامات، هل كانت الإمارات ستفرض رأيها وتعطي الأولوية لمصالحها والتزاماتها وتحافظ على الشراكة مع الصين.

إن الخليجيين قطعوا مسافات مهمة في التأسيس للشريك العالمي المؤثر ماليا وكذلك سياسيا. فرضوا على أميركا تغيير أدواتها وخطابها معهم.

لم يعد بإمكان الأميركيين أن يتعاطوا مع الخليج وفق الصورة القديمة، التي رسمها الإعلام الغربي وأفلام هوليوود، كل التعاملات بما في ذلك الموقف السياسي من القضايا الإقليمية. الخليجيون لا يريدون استعداء إيران لأجل ترضية الأميركيين، ويتمسكون ببناء علاقات هادئة معها بحكم الجيرة وتقاطع المصالح والأمن الإقليمي. بالنسبة إلى الخليجيين لا داعي لتهديد أمن الملاحة وسير حركة تصدير النفط فقط لأن أميركا تريد التضييق على إيران أو جرها إلى مفاوضات حول ملفها النووي. لأميركا وسائلها الخاصة في تحقيق ذلك من دون توتير علاقات الخليج مع طهران.

وبالنسبة إلى إسرائيل، كشفت جولة ترامب الخليجية الأخيرة وجود هوة جلية في موضوع إسرائيل تحت سيطرة اليمين المتطرف، ما يجعل من الصعب على الخليجيين أن يتواصلوا معها أو يفتحوا حوارات أو مسار تطبيع جديدا في مناخ من التدمير والقتل والدفع نحو التهجير..

والخلاف مع حماس ورفض مغامرتها بالحرب لا يمكن أن يبرر ما يجري للفلسطينيين يوميا. حتى إن ترامب نفسه بدا منزعجا من أداء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأدار له ظهره، وحين سئل بعد لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع إن كان قد تحدث مع نتنياهو بالموضوع أو أنه لم يراع موقفه، قال إن الأمر يهم مصالح الولايات المتحدة.

 لقد كشفت جولة ترامب أن أميركا بدأت تستوعب التغييرات الجذرية التي تجري لدى شركائها في الخليج، تغييرات في القناعات والثقة بالنفس، وقوة ترامب في أنه التقط الإشارات وسعى للحفاظ على العلاقة بهؤلاء الشركاء دون إملاءات..

9