جوع معولم متبادل

السذج من الزعماء الغربيين، وهم على ما يبدو أغلبية، لا يدركون أن طبخة العولمة بنموذجها الغربي/الأميركي قد خربت مذاقا وشاطت طبخا. ما بدأ قبل عقود على أنه عولمة تجارية، تحول إلى مشروع هيمنة فكرية لا يترك الكثير من المجال لأنماط أخرى من التفكير وأساليب أخرى من الحياة. هم جيل أمسك بزمام الحكم بعد أن مرت ثلاثة عقود على الانطلاقة السياسية للعولمة. وجد العولمة، بأوجهها المختلفة، تحصيل حاصل.
العولمة معنا منذ قرون طويلة. كل تجارة بين الدول عولمة. المسيحية عولمة والإسلام عولمة. الإمبراطوريات الكبرى عولمة. الاستعمار عولمة. الذي تغير في الثلاثين سنة الماضية هو انهيار نماذج للعولمة الأيديولوجية، مثل الشيوعية. الغرب تحرك باسم عولمة الاقتصاد وتحرير التجارة لإرساء نسخته الخاصة من العولمة الجديدة. توفرت له الكثير من الأدوات لعل أهمها ضعف البديل المنافس. كل يوم صار يزيد طعما إضافيا على طبخته من العولمة. مرة ديمقراطية ليبرالية ومرة ديمقراطية إسلامية (على نمط الديمقراطية المسيحية) ومرة ديمقراطية وسائل الاتصال ومرة ديمقراطية الشبكات الاجتماعية.
في البداية نجح. الناس انبهروا بالنموذج الغربي. النموذج الغربي مبهر لاعتبارات كثيرة خصوصا وأنه متكامل لعالمه الذي أنتجه، أي العالم الأوروبي – الأميركي. الغرب ماكنة صناعة كفؤة، وحقل إنتاج زراعي مشبع، ومنظومة فكرية تعلّمت من دروسها وصراعاتها البينية، وآلة ابتكار تكنولوجي وصحي، وبناء إداري وعسكري يعرف كيف يوجه الأمور لصالحه، وهيكل ضمانات أمنية واجتماعية تحمي المجتمعات. لكنه نموذج غربي. ما أن تنتهي فترة الانبهار به، حتى تبدأ الشعوب الأخرى بإدراك الفروقات، وتنتبه إلى التمييز بين تراكم ثقافاتها وحضارتها، وما يجعل الغرب غربا ثقافيا وحضاريا.
لعالمنا العربي، تنبأ صموئيل هنتنغتون بصدام حضاري مع الغرب تبين أنه أسهل أنواع الصدامات. مجتمعات تستعيد ثقافة دينية منغلقة، وترد بتحديات من شاكلة الرد العراقي الذي انتهى باحتلال بغداد، أو بحرب القاعدة وداعش على بلداننا قبل الحرب على الغرب. الصعوبة التي يواجهها الغرب اليوم ليست مع هذه التحديات الساذجة. إنه يواجه قوى صناعية وعسكرية كبرى، بعضها يتشبه بالغرب مثل كوريا الجنوبية، وآخر “يستعير” تقنياته وينتشر في أسواقه مثل الصين، وثالث يذهب بعيدا في المواجهة لدرجة الحرب بمعناها المباشر مثل روسيا التي تحارب الغرب على أرض أوكرانيا وتحاربه بإمدادات الطاقة على مساحة القارة الأوروبية. الغرب بارتباكه قد يضيع مكسبا إستراتيجيا مثل تايوان، باستعراض أقل من ساذج كزيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايبيه.
هذه أمثلة لزيادة النكهات العولمية على الطبخة، ثم ترك الطبخة على نار قوية لفترة طويلة تحرقها. مظاهر الجوع المعولم متبادلة: الفقراء في العالم الثالث يتضوّرون جوعا من نقص إمدادات القمح والزيت، والأثرياء من العالم الأول يستعدون لشتاءات باردة بعد أن أقلعوا عن إدمان حرق البنزين في سيارات فارهة.
ربما ما زال من المبكر القول هل نحن أمام تفكيك للعولمة أم في مواجهة حركة تمرد عليها. نشبع بطوننا وندفئ أرجلنا أولا، ثم نحاول الرد على التساؤل.