جوزيف بويز.. مسيرة فنية خالدة مادتها الشحم

"كل إنسان فنان"، "تتحرك الأفكار داخل الإنسان بينما تبقى حبيسة داخل العمل الفني"، "هدف الفن هو تحرير الإنسان، لذلك فالفن هو علم الحرية". كلها أقوال للفنان الألماني جوزيف بويز الذي تحتفل ألمانيا هذا العام بمئويته، وهو الفنان الذي أسس لمسار إبداعي خارج عن المألوف عبر مواد أعماله لتحقيق المألوف؛ الحرية والحياة الطبيعية.
برلين - أحدث الرسام الألماني جوزيف بويز ثورة فنية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية لم يحدثها أي فنان آخر تقريبا.
كان الرسام الألماني الاستثنائي بويز سيبلغ عامه المئة في 12 مايو 2021، إذ توفي في يناير 1986 جراء إصابته بفطريات في الرئة.
مئوية الفنان
تقول بيتينا باوس إن ذكرى ميلاده المئة تأتي في وقت ملائم للغاية فيما يظل الفن المتبقي لبويز “ذا أهمية كبيرة”، خصوصا في ما يتعلق بسؤال كيف نريد أن نحيا في المستقبل؟ وهو الذي اكتسب أهمية جديدة في ضوء أزمة فايروس كورونا.
وتؤكد باوس، المديرة السابقة لمتحف بويز في منطقة الراين السفلى بألمانيا، على أن مسقط رأس الرسام يشير إلى بيان بويز "دعوة لبديلٍ" الذي يرجع إلى عام 1978.
وفي البيان يصف الرسام العالم في حالة أزمة ويقترح نماذج جديدة للعمل والإنتاج والنظام المالي.
الفنان كان مؤمنا بحرية تجسيد الفكرة ذاتها أكثر من أسلوب، انطلاقا من مبدأ العفوية ومواد غير تقليدية
واليوم من المحتمل أن يتم اعتبار نهج بويز تجاه الفن والثقافة مشاركةً، رغم أنه كان يعرف أنه استفزازي في زمانه. وتقول باوس "هذا في النهاية ما أراده بويز".
لدى المتاحف في ألمانيا والنمسا خطط كبيرة لـ2021 عام بويز؛ فقد صممت 20 مؤسسة في ولاية شمال الراين – فيستفاليا وحدها وكذلك العديد من المتاحف في برلين وشتوتغارت وفيينا معارض للاحتفاء بإرث الرسام الغريب.
ومن المقرر إقامة الافتتاحات الأولى في بداية مارس فيما يأمل الجميع ألا تحبط جائحة فايروس كورونا المعارض التي جرى التخطيط لها منذ فترة طويلة.
مسيرة غريبة
برع بويز، الذي يعتبر من أهم فناني شبكة فلاكسس والواقعية، في فن النحت والأداء في الفترة ما بين الخمسينات والثمانينات. وتميزت أعماله باستخدام المواد غير التقليدية مثل الشحم و”اللباد – Felt” التي أثارت جدلا كبيرا في الأوساط الفنية، وأظهرت هذه الأعمال تأثره الكبير بالتعاليم الروحانية والأساطير، وتميزت أسماء أعماله بكشفها لمعظم فكرة العمل، وهو ما يعكس جانب المنظّر والمربي الفني فيه.
قصة الفنان غريبة بعض الشيء، وهي ربما ما خول له أن يقدم تجربة فنية استثنائية بكل المقاييس. فقد خدم بويز في الجيش وتحديدا في فرقة القوة الجوية الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية.
عام 1943 تحطمت طائرته في منطقة شبه جزيرة القرم المتجمدة، وعندما وجده بعض الأشخاص بين الحياة والموت قاموا بتدفئته وتغطيته بالشحم واللباد اللذين أصبحا فيما بعد بصمته في جميع أعماله الفنية. وغيرت نجاته من الحرب حياته كليا حيث عانى إثر ذلك من صدمة نفسية حادة لم ينقذه منها سوى الفن.
بعد الحرب العالمية الثانية اتجه إلى دراسة الفن في مدينة دوسلدورف في الفترة ما بين عامي 1947 و1951 ليبدأ إثرها مسيرة فنية كانت له فيها بصمته الغريبة والمميزة ونظرته السابقة لعصرها.
ورغم أنه عُين أستاذًا بقسم النحت في أكاديمية الفنون في دوسلدورف عام 1961 وبالرغم مما يقتضيه تدريس الفن من انضباط أكاديمي كرّس الفنان أعماله وآراءه ونظرياته حول الفن لمبدأين أساسيين هما العفوية والحرية، وهو ما رسخه طيلة مسيرته منذ قدّم أول عرض له مع فرقة الفن الطليعي الدولية المعروفة باسم فلاكسس.
انطلاقا من فكرة الحرية في التعبير والإبداع لجأ بويس إلى العديد من المواد في عملية إخراج أعماله الفنية، على سبيل المثال الشحم والدم وألوان الطلاء والمادة الكاوية… كلها مواد مستخدمة خرجت عن الإطار الكلاسيكي لأسلوب المعالجة الفنية.
كان الفنان مؤمنا بحرية تجسيد الفكرة ذاتها أكثر من أسلوب التعبير، انطلاقا من مبدأ العفوية في استخدام مواد غير تقليدية والخروج عن المعتاد.
علق بويس ذات مرة على الفن قائلا “أكثر القوى الثورية هي قدرة الإنسان على الإبداع، وقوة الإبداع هي الفن والحدس بدلا من كتاب الوصفات”.
وقف الفنان بشكل دائم إلى جانب الطبيعة، كما لم يتوقف عن نقد الخلل الذي أحدثته التغيرات المعاصرة في مظاهر الحياة. ولم يتوقف صوته عند حدود أعماله الفنية على أهميتها بل ساهم في أنشطة وساند جمعيات وأحزابا مختلفة، حيث طالب بالسماح بالمزيد من الإبداع في شتى مجالات الحياة، وساهم بفاعلية في إنشاء دولة كان يسميها “النحت الاجتماعي”، وهذه العبارة تصف انتشار مفهوم الفن في الدولة.
كثيرة هي الأعمال الشهيرة والمؤثرة في مسيرة الفنان، ربما نذكر منها عملا أدائيا بعنوان “كيف تشرح الصور لأرنب بري ميت؟”.
غطى بويز وجهه بالعسل ورقائق الذهب، وارتدى في إحدى قدميه حذاءً من اللباد وفي الأخرى حذاءً من الحديد، وظل يمشي في ساحة العرض لمدة ساعتين ويشرح بهدوء الفن لأرنب بري ميت كان يحمله.
ونذكر أيضا عمله “جمجمة المرأة/ الحيوان”، وهو من أوائل الأعمال التي قام بها بويز، ويعبر هذا العمل عن المزج بين العقلانية والغريزة، أو عن خروج العقول البشرية وعقول الحيوانات من حالة البدائية إلى الفوضى العضوية.
نجد أيضا عمله “تسلل متجانس للبيانو”، وهو عبارة عن بيانو مغطى بطبقة من اللباد رماديّ اللون. وأشارت كلمة “متجانس” إلى أن العمل كان مركبًا أو أن شيئًا ما كان ممزقًا ثم التأم. وأشارت كلمة “تسلل” إلى شخص يرغب في اختراق طبقة اللباد واستعادة الآلة الموسيقية.
وغالبا ما تشرح العناوين رسالة العمل الفني لبويز، ورغم أن هذه الأعمال لم يصمد الكثير منها نظرا إلى خصائص مواده فإنها تبقى خالدة في تأثيرها الكبير في الفن والفكر والمسار التحرري والوقوف إلى جانب الحياة والطبيعة.