جوارديولا عقل شطرنجي هادئ في كل شيء إلا انفصال كتالونيا

السبت 2015/10/03
جوارديولا مدرب برشلونة وبايرن ميونيخ الذي خلط جميع الأوراق

“لم آت لكي أصنع التاريخ، لكن لكي أصنع تاريخي الشخصي” عبارة ختم بها الساحر بيب جوارديولا مشواره كلاعب مع ناديه وعشقه الأكبر في الحياة “برشلونة” عام 2001، حينما اختار بشكل مفاجئ الرحيل عن صفوفه، وهو في قمة عطائه وقبل أن يحتفل بعيد مولده الثلاثين.

هذا الفصل غير الموضوعي بين التاريخ الشخصي والعام، عند اللاعب الشاب لم تثبت الأيام صحته، وإنما على العكس أكدت وجهة النظر المقابلة التي تقول إن كل تاريخ شخصي يسعى أيّ إنسان لصناعته هو في الواقع جزء من التاريخ العام.

موقف جوارديولا من استقلال إقليم كتالونيا الذي تتبعه مدينة برشلونة، ومن ثمة أحد أشهر أندية العالم حاليا، يبدو موقفا ثانيا يتجلى فيه الفصل غير الموضوعي في حياة النجم الخلوق، فدفاعه المستميت عن الاستقلال، وعباراته التي تفيض تمردا على أسبانيا، وتعبئة للروح الوطنية لدى سكان الإقليم، لا تتفق أبدا مع أخلاقه الرفيعة التي اشتهر بها، سواء في مشواره الكروي أو حتى بعد تألق نجمه كمدرب بارع.

الحرب مع المسؤولين

هذا التناقض ربما هو ما يثير حفيظة المسؤولين الأسبان والمواطنين الذين لا يرغبون في استقلال كتالونيا، ويجعلهم يصبون على جوارديولا وحده كل لعناتهم ويحمّلونه خطايا وتبعات الانفصال غير المدروس من وجهة نظرهم، رغم أن الحقيقة تقول إنه ليس سوى واحد من مشاهير كثر يؤيدون الانفصال ويدعون له، حتى أن بعضهم لا ينتمي للمدينة سوى من خلال اللعب لفريق برشلونة في وقت ما، بالتالي لا تبدو مشاعرهم الانفصالية المتأججة مبررة على الأقل مثل جوارديولا المولود في مدينة سانتبيدور بقلب الإقليم الثائر.

في يوليو الماضي أثار بيب جنون وزير الداخلية الأسباني خورخي فيرنانديز دياز بقبوله الانضمام إلى القائمة الانتخابية لتحالف يضم اثنين من أبرز أحزاب كتالونيا الداعية للانفصال هما حزبا “التقارب الديمقراطي” و”اليسار الجمهوري” اللذان فاز تحالفهما فعلا بالنسبة الأكبر في الانتخابات التي أقيمت مؤخرا، لكن دون الحصول على النسبة التي تخولهما تشكيل أغلبية في برلمان الإقليم، من ثمة تولّي المفاوضات مع الحكومة الأسبانية في مدريد حول مستقبل كتالونيا، وما إذا كانت ستنال استقلالا كاملا كما يدعو الحزبان، أو تحصل على حكم ذاتي ونسب معقولة من عوائدها الاقتصادية، مثلما يعرض بعض السياسيين المحسوبين على الدولة الوطنية الأسبانية.

حماس جوارديولا لانفصال كتالونيا يدفعه لقبول الترشح في الانتخابات البرلمانية للإقليم، ليحقق فيها تحالفه الانتخابي بقيادة أرتور ماس رئيس الحكومة المحلية المنتهية ولايته تفوقا ضئيلا لم يمنحه الأغلبية البرلمانية الكافية لبدء التفاوض مع الحكومة الأسبانية حول الاستقلال

فور الإعلان عن انضمام بيب جوارديولا إلى القائمة الانتخابية للحزبين فقد الوزير الأسباني عقله تماما، وأطلق العنان للسانه في الهجوم على جوارديولا بضراوة لا تبدو مفهومة لغير المتابعين لأزمة استقلال كتالونيا، واللافت أن المسؤول الحكومي الوقور لم يكتف بانتقاد جوارديولا وآرائه السياسية، ولا حتى توقف عند انتقاد انخراط المدرب الشاب في السياسة مستغلا شهرته الرياضية.

لكن فرناندو دياز تجاوز كل الحدود باتهام الساحر البرشلوني بأنه كان يخفي قناعاته السياسية عندما كان لاعبا ودافع عن ألوان منتخب أسبانيا من أجل المال، عندما قال حرفيا لإذاعة كادينا سيرا المدريدية تعليقا على ترشح بيب “نرى أن بعضهم أزال الأقنعة ولعب وفاز مع المنتخب ليس من أجل المواطنة، لكن طمعا في المال، لأن هناك بعض الأشخاص يعتبرون المال هو إلههم”.

المدرب الشاب احتفظ بأدبه الجمّ وهدوئه المعروف عندما وُوجه بهذه الاتهامات، وبدلا من الانخراط في وصلات من السباب والاتهامات المتبادلة اكتفى بالقول “أعتقد أن الوزير مخطئ بعض الشيء، فأنا دفعت كل الضرائب المقررة عليّ منذ أول يوم وحتى آخر يوم، وهذا يعني أنني لا ألعب من أجل المال”.

مرشح شرفي

حماس جوارديولا لانفصال كتالونيا دفعه لقبول الترشح في الانتخابات البرلمانية للإقليم التي جرت مؤخراً، وحقق فيها تحالفه الانتخابي بقيادة أرتور ماس رئيس الحكومة المحلية المنتهية ولايته والتفوق الضئيل لم يمنحه الأغلبية البرلمانية الكافية لبدء التفاوض مع الحكومة الأسبانية حول الاستقلال، كما أنه لم يشفع للمدرب الشاب دخول البرلمان كعضو منتخب لأن اسمه ورد في آخر القائمة الانتخابية للحزبين المتحالفين. وهو أمر يتفق مع رغبة بيب الذي قال عقب الإعلان عن ترشحه قبل شهرين إنه لن يترك عمله في بايرن ميونيخ، ولا يفكر في أن يصبح عضوا في البرلمان بعد أن اختار أن يكون في المركز الأخير للقائمة الانتخابية، وإنما كل ما يريده تقديم أي دعم ممكن للكفاح من أجل استقلال الإقليم.

ويبقى أن هذا الحماس المبالغ فيه من جوارديولا ليس فقط غير مبرر، إنما يتناقض مع شخصية المدرب الشاب الهادئة الوقورة، وعقليته التي تشبه كثيرا لاعبي الشطرنج في تنظيمها ورؤيتها الشاملة.

من غير المفهوم حتى الآن أن يملك بيب كل هذا الدفاع للوقوف مع قرار تؤكد التوقعات أنه سيعود بخسائر هائلة على برشلونة النادي الذي تربّى فيه وصنع فيه اسمه كلاعب ثم كمدرب، حيث سيتوجب عليه في حال إقرار الانفصال رسميا أن يلعب في دوري كتالونيا، مع فرق مغمورة، أشهرها إسبانيول البعيد عن منصات التتويج منذ عقود، وهو أمر سيكلف النادي خسائر بالمليارات.

دفاعه المستميت عن استقلال كتالونيا وعباراته التي تفيض تمردا على أسبانيا وتعبئة للروح الوطنية لدى سكان الإقليم لا تتفق أبدا مع أخلاق جوارديولا الرفيعة التي اشتهر بها

برشلونة والسياسة

الغريب أيضا استمرار جوارديولا في موقفه رغم أن الموقف الرسمي للنادي ورئيسه الحالي جوسيب ماريا بارتوميو، الذي أعلن بوضوح أنه ينأى بالفريق عن السياسة، وقال مبررا ابتعاد الفريق عن الحملات الدعائية للانتخابات الأخيرة “لقد أظهر النادي دائما أنه خارج الحملة الانتخابية، تحدثنا فقط عن الرياضة، ونحن لا نقوم بحملات”.

من غير المعقول أن يكون موقف جوارديولا مستندا فقط إلى طموحه في تولّي تدريب منتخب كتالونيا كما روّج البعض لذلك، لأن معطيات الواقع تقول أن اسم بيب في حد ذاته أكبر بكثير من اسم منتخب كتالونيا، كما أن المدرب الشاب الذي تتهافت الأندية والمنتخبات في جميع أنحاء العالم على استقطابه كان أحد المرشحين البارزين لتولي تدريب منتخب أسبانيا نفسه بطل العالم وأوروبا، عقب تقاعد المدرب الحالي ديل بوسكي، فضلا عن شائعات ربطته بتولي تدريب منتخب إنكلترا، بعد انتهاء بطولة أمم أوروبا صيف العام المقبل.

بالتالي ليس من المفهوم لماذا يكلّف نفسه معاداة أكثر من ثلثي مشجعي الكرة الأسبان المنتمين لفرق العاصمة مدريد وغيرها من المدن الأخرى، لمجرد تولّي تدريب منتخب مغمور؟

يربط البعض بين موقف بيب الصارم وموقف الرئيس السابق لبرشلونة خوان لابورتا الذي كان مؤيدا كبيرا لانفصال كتالونيا، انطلاقا من طموحاته السياسية، وهو ما آثار حفيظة بعض أعضاء النادي وكلّفه لاحقا الإخفاق في العودة لرئاسة النادي في الانتخابات التي جرت هذا الصيف، لصالح الرئيس المغمور بارتوميو.

التفسير الوحيد الذي يبدو مقبولا ومنطقيا أن المدرب الشاب عانى مثل غيره من سكان الإقليم من غياب العدالة، ويرغب في أن يوفّرها لأبنائه، وهو ما يمكن فهمه من تصريحه الأخير الموجه لسكان كتالونيا قبل الانتخابات حين قال “لدينا فرصة لجعل دولتنا تظهر من جديد وتبدأ من الصفر، وأن تكون أكثر عدلاً، الشعب يملك إرادة، ولا يستطيع أيّ شخص أن يمنعها”.

جدير بالذكر أن إقليم كتالونيا يقع شمال شرق أسبانيا، ويسعى للاستقلال نظراً لأنه أكثر الأقاليم دعما لاقتصاد البلاد، لكنه في نفس الوقت مثقل بالديون نتيجة سياسات الحكومة، ما غذّى فكرة الاستقلال، خاصة وأن سكانه يشعرون بهوية مختلفة عن باقي أنحاء أسبانيا.

عموما أثار تناقض جوارديولا شكوك ميجيل كاردينال وزير الدولة الأسباني للشؤون الرياضية، مما دعاه لحث المدرب على إعادة التفكير في موقفه، لأنه لا يدري ما إذا كان طرفا في هذه الأساليب المضللة التي يمارسها بعض الداعين للانفصال في كتالونيا، وذلك في معرض تعليق الوزير على فيديو الحملة الذي ظهر فيه جوارديولا قبل موعد الانتخابات البرلمانية بأيام، مؤكدا أنه صيغ بطريقة أظهرت أن جميع الرياضيين في الإقليم يدعمون الانفصال، وهو أمر غير صحيح.

من غير المفهوم حتى الآن أن يملك بيب كل هذا الدفاع للوقوف مع قرار تؤكد التوقعات أنه سيعود بخسائر هائلة على برشلونة النادي الذي تربّى فيه وصنع فيه اسمه كلاعب ثم كمدرب

طرق أخرى للفوز

يحتفظ جوارديولا وهو أب لثلاث بنات، هن ماريا وماريوس وفالنتينا، بإعجاب هائل لبطل العالم السابق في الشطرنج الروسي جاري كاسباروف، ويرى أن تشبيهه به شكل من أشكال مدح الناس له كما كشف كتاب “بيب ـ طرق أخرى للفوز”.

يملك عقلا -كما وصفه الكتاب- أشبه بعقل كاسباروف، يفكر ويحلل كل الاحتمالات الممكنة قبل أن يتخذ قراره النهائي، يشك في كل شيء حوله، ليس لأنه يخشى المستقبل أو المجهول، إنما لأنه يبحث دائما عن الكمال رغم علمه بأنه أمر مستحيل، لكن ما يشغله على الدوام محاولة الوصول إليه.

عندما ابتكر طريقة “التيكي تاكا” مع برشلونة قاده لإحراز أربعة عشر لقبا في فترة استثنائية من تاريخ الفريق والمدرب، توقف الكثيرون عند فلسفته في امتلاك الكرة أغلب فترات المباراة، لكنه خرج يهاجمها بعد فترة قائلا “التيكي تاكا أكذوبة وهي مجرد خطوط عريضة لخططه التكتيكية تتوسطها الكثير من الأفكار الصغيرة والتفاصيل المرهقة التي تشغل عقله طوال الأيام السابقة للمباراة”.

لا يترك شيئا للصدفة أو الظروف، ويلتمس دائما أسباب النجاح، حتى أنه بعد موافقته على تدريب فريق بايرن ميونيخ، حصل على دروس في اللغة الألمانية من أربع إلى خمس ساعات يوميا، حتى يكون قادرا على التواصل مع لاعبيه دون الاستعانة بمترجم.

الملامح البريئة التي ترتسم على وجه بيب والتصريحات المهذبة التي يمتلئ بها سجله الإعلامي لا تعني ملائكيته المطلقة، فقد وقع في عدد من الأخطاء طوال مشواره الكروي، بداية من أزمته الشهيرة عندما كان لاعبا بفريق بريشيا الإيطالي عام 2001، حين عوقب بالإيقاف لأربعة شهور ودفع غرامة 50 ألف يورو من قبل لجنة الانضباط بدوري المحترفين الإيطالي، بعد الكشف عن وجود آثار لمنشط “ناندرولونا” في جسمه، ورغم أن محكمة الاستئناف برّأته من التهمة عام 2007 إلا أنها بقيت تطارده كشبح كئيب من الماضي.

أسوأ ما واجهه بيب في مشواره الكروي، وقع بعد فترة قليلة من ابتعاده عن تدريب برشلونة، حيث اختلف مع رفيق دربه الراحل تيتو فيلانوفا الذي عمل مساعدا له لفترة قبل أن يتولى الإدارة الفنية للبارسا بعد رحيله

تصرف آخر أقدم عليه بيب في نهاية مشواره الكروي يعتبره بعض خصومه كاشفا لحبّه للمال، عندما انتقل للعب في صفوف نادي الأهلي القطري عام 2003 بدلا من قبول عرض قدمه إليه وقتها مانشستر يونايتد الإنكليزي الشهير، وهو موقف اعتبره خصومه زلة كروية منه، تعكس ميله لجمع المال فقط، لكن هذه الاتهامات مردود عليها بأن ما حصل عليه من النادي القطري لم يكن أكثر مما كان يحصده من مانشستر يونايتد، كما أن لاعب الوسط الذي كان يبحث عن ختام هادئ لحياته الكروية في الملاعب كان واحداً من أفضل اللاعبين في الدوري القطري.

جوارديولا يبكي وسط الملعب

أسوأ ما واجهه بيب في مشواره الكروي، وقع بعد فترة قليلة من ابتعاده عن تدريب برشلونة، حيث اختلف مع رفيق دربه الراحل تيتو فيلانوفا الذي عمل مساعدا له لفترة قبل أن يتولى الإدارة الفنية للبارسا بعد رحيله.

قصة الخلاف، كما رواها كارلو ريكساش الذي كان أحد أفراد طاقمهما الفني، بدأت عندما رحب جوارديولا بعرض مانشستر يونايتد لتولي إدارته الفنية مع فيلانوفا خلفاً للأسكتلندي أليكس فيرجسون، لكن تيتو رفض العرض بسبب حاجته للبقاء مساعداً فترة أطول، ثم وصل الأمر إلى حد القطيعة بين الاثنين بعد أن استلم فيلانوفا تدريب برشلونة، حيث شعر جوارديولا أن الأمر كان محضّراً مسبقاً، معتبرا تصرف تيتو بمثابة خيانة من زميل نجاحاته.

موقف بيب بعد وفاة فيلانوفا المفاجئة متأثرا بسرطان الغدة النكفية، أثار موجة عالمية من التعاطف معه، حيث أبدى ألمه لوفاة صديقه، مؤكدا أن الحزن الذي خلّفه فقدانه سيبقي بداخله إلى الأبد.

كشف بيب عن نبله الشديد عندما صرّح للاعبي بايرن ميونيخ الذي كان يدربه وقتها بأنه “مرتاح جدا أننا أصلحنا أخطاءنا قبل أن يرحل، أنا سعيد لأنه لم يرحل غاضبا مني” وبدا متماسكا بشكل غريب، قبل أن ينهار عقب مباراة فريقه التي أقيمت في اليوم التالي للوفاة ويجلس على أرض الملعب منخرطا في نوبة هيستيرية من البكاء.

15