جنوب أفريقيا توأم فلسطين

في ساحة نيلسون مانديلا بحي الطّيرة بمدينة رام الله، والتي ينتصب في قلبها تمثاله الشّامخ منذ العام 2016 والذي أهدته جنوب أفريقيا لفلسطين، أجزل رئيس الوزراء الفلسطيني محمّد أشتيه الشّكر والعرفان، لدولة جنوب أفريقيا وذلك بحضور سفيرها وحشد من المسؤولين والمواطنين الفلسطينيين وأعلام فلسطين وجنوب أفريقيا تخفق في الجو الماطر فوق الهامات.
جنوب أفريقيا وهي دولة ليست عربية ولا حتى إسلامية، لكن الألم المشترك الذي جمع الشّعبين كان أقوى من أواصر العروبة والإسلام، قد قامت بسابقة تاريخية بكسرها كل الحواجز وأحرجت باقي الدول التي تدّعي مناصرة الفلسطينيين ومأساتهم الممتدة منذ العام 1948، حيث انتقلت من التصريحات إلى الخطوات الفاعلة، بإرغامها إسرائيل على أن تقف مدافعة عن نفسها في لاهاي لقيامها بجرائم الإبادة الجماعية في غزّة. يُحسب لجنوب أفريقيا شجاعتها وبسالتها تلك، وخاصة أن ما قامت به من المؤكد أنه سيشجع الكثير من الدول الأخرى كي تنضم إليها وتحذو حذوها وتسير في ركبها، ركب الحرية والعدالة والتحرر والمساواة.
جنوب أفريقيا قامت بما لم تستطع جامعة الدول العربية أو منظمة التعاون الإسلامي القيام به، وهذا يعيد للذاكرة أن الشّعوب المضطهدة والتي ذاقت من الاحتلال الأمرّين، هي من تسارع للتضامن مع الفلسطينيين والوقوف معهم، وهي الأقرب لهم، بغض النظر عن عرقهم أو ديانتهم أو لسانهم أو قربهم أو بعدهم الجغرافي، دون أن تكترث لأيّ عواقب من تهديدات بعقوبات أميركية دبلوماسية واقتصادية قاسية أو شتائم وبلطجة إسرائيلية سياسية، من معاداة السّامية أو الاتهام بالنّازية، وللتأكيد على صحة هذه الفرضية، من الضروري أيضا أن نستذكر موقف دولة بوليفيا الواقعة في أقصى غرب أميركا اللاتينية، والتي كانت أوّل من بادر بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، بعد أقل من شهر على شنّها حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة ومعاقبتهم في الضفة بالاقتحامات والإعدامات الميدانية والأسر دون ذريعة تذكر.
الخطوة الجبارة التي قامت بها جنوب أفريقيا ستفتح الباب على مصراعيه وتمهد الطريق للعديد من الدول، لمعاقبة إسرائيل على ما اقترفه جيشها ومستوطنوها من ذبح وحرق وقتل
ومن الواجب أيضا أن نستذكر عراقة العلاقات بين البلدين، والدبلوماسية النشطة للراحل ياسر عرفات، حين كان أوّل المستقبلين لنيلسون مانديلا بعد خروجه من السجن بأسبوعين، في مطار زامبيا في العام 1990 وهو يعتمر كوفيته الفلسطينية، زاوج الزعيمان بين قضية شعبيهما ونضالهما الحثيث للتحرر من الاحتلال، فمنظمة التحرير الفلسطينية هي توأم المؤتمر الوطني الأفريقي كما أن رام الله هي توأم جوهانسبرغ.
وبالعودة إلى أهمية تحرك جنوب أفريقيا، يجب التنويه أنها فعّلت المادة التي تتحدث عن طلب الإجراءات المؤقتة العاجلة، حيث أنها طلبت من المحكمة أن تأخذ خطوة سريعة قبل إنجاز التحقيق بشكل كامل وسماع القضايا، واتخاذ إجراء عاجل من أجل وقف العدوان ووقف إطلاق النار. ومن المتوقع أن يصدر حكم في وقت لاحق من هذا الشهر بشأن الإجراءات العاجلة لكن المحكمة لن تصدر حكمها في ما يتعلق باتهامات الإبادة الجماعية في الوقت الراهن، إذ قد تستغرق هذه الإجراءات سنوات.
فالأبعاد هنا لا تتوقف عن كونها دبلوماسية أو سياسية بل هي تحمل بعدا إنسانيا واضحا، يقتضي بالضرورة وقف هذه المجازر اليومية ولجم الوحش المتطرف القادم من تل أبيب، كي يتوقف عن التدمير والقتل والتشريد بلا هوادة.
وفي خضم هذا المعمعة السياسية والدبلوماسية والحقوقية، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عبر منصة إكس للتواصل الاجتماعي في محاولة لتبييض صورته وصورة حكومته السّوداء “أريد أن أوضح بعض النقاط بصورة قاطعة: إسرائيل ليس لديها أيّ نية لاحتلال غزة بشكل دائم أو تهجير سكانها المدنيين”. وفي المقابل ماذا يمكن أن يقول عن تصريحات عميحاي إلياهو وزير التراث بضرب غزة بقنبلة نووية ووزير ماليته سموتريتش عن محو بلدة حوّارة؟
في المحصلة، يعلم الجميع أن الولايات المتحدة وخلفها الدول الغربية المنافقة، ستستخدم كل نفوذها لعدم اتخاذ أيّ إجراء رادع بحق إسرائيل، لكن هذه الحرب علّمت الكون أنه من اليسير هزيمة إسرائيل عسكريا ولوجستيا واستخباراتيا وسياسيا ودبلوماسيا أيضا، وأن هذه الخطوة الجبارة التي قامت بها جنوب أفريقيا ستفتح الباب على مصراعيه وتمهد الطريق للعديد من الدول، لمعاقبة إسرائيل على ما اقترفه جيشها ومستوطنوها من ذبح وحرق وقتل، فربما تأمن العقوبة هذه المرة ولكنها لن تأمنها في المرات القادمة.