"جنكو" يتخطى تخوم الألوان بتعبيرية تجريدية

تتحدّث لوحات الفنان جهاد موسى -أو “جنكو” كما يحلو للوسط الثقافي السوري مناداته- في مجملها عن الحياة والعدم، الخصب والقحط، النور والعتمة، برموز وحركات انسيابية لترسم وقائع إنسانية متراكمة في الذاكرة، أساسها اللون أولا وأخيرا، حيث عجينة ألوانه هي البطل الأوحد في منجزه الفني التعبيري والتجريدي معا.
جهاد موسى -أو “جنكو” كما هو معروف بين أقرانه من أبناء مدينته عامودا السورية حيث ولد، وكما يحب أن يعرف به- هو حالة إبداعية لا تغيب عن الوقائع الفنية بوصفها وضعيات إنسانية متراكبة ومتراكمة، فهو يتحدّث باللون وإن كان باحثا في تقنية الرسم ومواده. وهو الذي سبق له أن ترجم كتاب “أسرار تقنية الرسم” من الروسية 2006، بعد حصوله على الدكتوراه عام 2006 من أكاديمية المسرح والفنون في بطرسبورغ.
يتحدّث جنكو باللون، وهذا ما ينبغي له القيام به داخل ممكناته المحكومة بغطاء فضائي إنساني، فهو حالة كائن يعود إلى داخل الموجودات لإخراج حصيلتها إلى السطح بدلالة لا تعبأ بالمحور الحامل لنمطية تفكيره وخلقه، ولا يكفيه بعض المفاهيم المتداولة حتى يباشر برسم إحالات لعلاماته داخل حصيلة سيرورة تجربته، فالوقائع عنده ليست أكثر من تحديد طبيعة الكون الدلالي لعمله. ومن هنا يأتي انتقاؤه القيمي لاستراتيجية تجربته وبناء عناصرها لا كاختيارات دلالية ولا للفصل بين هيكلية عمله وبين الأداة البانية لها فحسب، بل لخلق قاعدة انطلاق مع توفّر كل أدوات الوصف وإنتاجه.
فعل وردّة فعل

لا حواجز بين الشكل واللون في لوحات جنكو
ما يحدّد الطبيعة الافتراضية لمنجز جنكو هو الممارسة اللامحدودة لمضمون مقولته في ذاتها وخلق معرفة جديدة في سياقه الخاص وكأحد تصوّراته لتحقيق ما يمكن أن نطلق عليه اسم الميكانيزمات التي تهيمن على تحوّلاته، فكل عملية إنجاز عنده تعني نمطا ما في البناء لا كتحديد مضمون بل كاختيار دلالي قابل للاشتغال ضمن حدوده المباشرة. وهذا بدوره يمنحه تحقّقات في عالم دائم التغيّر والتطوّر، وهو ما يثير اهتمام المتلقي أو على الأقل يطلق فهما ما يخصّ فرضياته.
والتعرّف على النسق الذي يرابط جنكو عليه ويمنحه خصوصية ما يجعلنا نردّد مقولة “المبدع لا يخلق القيم، ولكنه يخلق أشكالا جديدة للتحقّق” وكأنها قيلت وفق ما يضيفه هو وما يريد هو أن يقوله عن تجربته.
فما يقوم به من تكثيف الفعل عبر استعادة عمليات تحويل مسارات تصوّراته هو الذي سيقوده إلى داخل مدارات الممارسة الإبداعية، وذلك بإعادة الفعل المتحرّك لسطوحه وإعادة صياغتها بتنوّع ردود الأفعال التي تتدافع في حالته من خلال الوقائع التعبيرية التجريدية، وما المقصود في حالته هذه إلاّ ما يتعلّق بها من تجسيد لخصوصيته، تلك الخصوصية التي تحمل طعما ولونا كل منهما يُشير إلى نمط خاص لكياناته المرئية منها واللامرئية، ومنهما يستمدّ الفنان السوري فرادته.
في عمل جنكو لا يستند المتلقي في تقييمه على فهمه له بقدر ما يستند على تذوّقه وما يخلق في داخله من متعة عذبة جميلة ومن قراءة أولية بدائية تتولد عنها متعة آسرة ترافقه لفترة زمنية، راسما في مخيلته مسارات للتأويل لا يمكنه تجاهلها.
ويمكن القول هنا إن كل الإرساليات المتبادلة بين عمل جنكو ومتلقيه هي إرساليات تحتضن الوقائع وكل التأويلات الممكنة ضمن ما تسمح به ممكنات العمل الدلالية، فكما تتعدّد القراءات ستتعدّد التأويلات تبعا لطبيعة المتلقي وما يحمله في جعبته من مفاهيم وقيم وتركات معرفية، أو تبعا لدائرة التصنيفات المعرفية (تقليدية أو جديدة) التي ينتمي إليها. وهذا ما سيحدّد رؤيته وامتداداتها مع إيقاظ وعيه النقدي بدرجة ما، ومع ذلك فالمتلقي ليست لديه نظرية جاهزة في التعاطي مع أعمال جنكو بقدر ما يعتمد على ذائقته وأحاسيسه في صياغة تصوّراته، والتي قد تلد متناقضة في أكثر الأحيان، فالنشاط المعرفي العام مازال يبحث لنفسه عن حضور وترسيخ باعتباره نتاج الإنسان وسلوكياته.
تحوّلات وتأويلات
في ضوء ذلك ومن أجل الإدهاش الذي يتركه عمل جنكو لمتلقيه الذي يشدّ أنفاسه وسط الكم الهائل من التأويلات التي تتكاثر وتتمدّد كسيمفونية عذبة، تفاجئه وتخطف تردّداته ليبقي هيمنته على التحوّلات التي لا يمكن الفكاك منها، ولا من مدى آثارها عليه وعلى قراءاته في سبيل تحقيق غرض معرفي إلى جانب المتعة المساندة للروح، يمكن لجنكو أن يتجاوز الأبعاد الوظيفية لبؤر إنتاجه إلى تحديد أنماط فضاءاته، حيث يجنح بألوانه وخطوطه إلى صيغ لها المدى القادر على تعريف مشروعه المحفوف بالجهود الحذرة، وهي تكسر حدود حقله بوضوح مع قطع المطلق لدرجة التناثر، أي يعلن عن نفسه في الحاضر.
فكل عمل من أعماله، وفي جانب واحد من جوانبها على الأقل، هو استجابة لرؤيته الجمالية في التجربة الإنسانية بوصفها إرساليات ثقافية خاصة مرتبطة في المقام الأول بتلك التراكمات ذات الأنساق التواصلية بتصنيفاتها المختلفة، وهذا أمر بالغ الأهمية.
جنكو في النهاية يرتكز على شبكة مركبة من العلامات، سواء منها العلائقية أو المعزولة، مع وجود إمكانية تخطي تخومه في الوقت ذاته. ومن هنا يتوجب عليه من الناحية البنائية أن يُعيد ملفوظاته التزاحمية، الرمزية منها والموفدة، كطريقة جديدة في رصد البعد الجمالي لحالاته الإدراكية.