جماليات مقاييس الجنوب

معرض باريسي بعنوان "جيومتريات الجنوب، من المكسيك إلى باتاغونيا" يستعاد فيه من خلال أعمال أكثر من 70 فنانا تراث أميركا الجنوبيّة عبر أشكال الزخرفة الهندسيّة.
الأحد 2019/02/03
رحلة في عوالم هندسيّة

يشهد العالم الآن إعادة نظر في تاريخ الاستعمار الأوروبي ورموزه، أولئك الذين يُحتفى بهم كمغامرين ومكتشفين، لكنهم حقيقة، ليسوا إلا غزاة ومرتكبي مجازر قضوا على ثقافات وشعوب بأكملها، بل ولا بد من إزالة تماثيلهم، خصوصا من أميركا الجنوبية، التي تعرضت فيها قبائل للإبادة الجماعية.

مع ذلك، بقيت الأشكال الثقافية المحلية محافظة على خصوصيتها، وتحولت إلى جزء من التراث العالمي، الذي يرى في أميركا اللاتينية مكان حجّ للباحثين عن الإلهام الأدبي والفني، بسبب تفرد جمالياتها واختلاف فنونها عن تلك التي يحتفي بها تاريخ الفن الأوروبي.

تقيم مؤسسة كارتية للفنون المعاصرة في العاصمة الفرنسيّة باريس معرضا بعنوان “جيومتريات الجنوب، من المكسيك إلى باتاغونيا”.

 ونشاهد فيه أعمال أكثر من 70 فنانا، وما يتجاوز مئتي قطعة فنيّة من أميركا الجنوبية تنتمي إلى حقب مختلفة من قبل وصول كريستوفر كولومبوس حتى الآن، يحاول عبرها المعرض أن يقدم لنا رؤيّة جديدة لأشكال الزينة الهندسيّة، وعلاقتها مع الفنون المختلفة في أميركا اللاتينية، التي تظهر فيها الزخارف بصورة مغايرة للشكل الأوروبي الحداثي الذي جاء به المستعمر، والذي يعكس الهيمنة والوظيفيّة الشديدة، ليكون تعبيرا ماديا وجماليا عن السيادة والسطوة.

واجهات الأبنية تستعيد تراث السكان الأصليين وألوانه
واجهات الأبنية تستعيد تراث السكان الأصليين وألوانه

ما إن ندخل المعرض حتى تلفت انتباهنا الصالة الرئيسيّة التي صممها البوليفي فريدي ماماني، والتي تتميز بألوانها الزاهية، وزخرفاتها المستوحاة من تراث القبائل والثقافات الأصليّة

 وهذا ما نراه لاحقا في الأبنية التي صمم واجهاتها في بلدته إل ألتو في بوليفيا، والتي تشابه الزخرفات التي تحويها الأقمشة التقليديّة المستخدمة في احتفالات قبيلة الإيمارا، ليبدو البناء وكأنه يرتدي زيا ملونا، لكنه في ذات الوقت يحوي عناصر معاصرة، إذ تحضر موتيفات من الخيال العلمي وأضواء النيون داخل البناء، إلى جانب استخدام ماماني للمرايا، التي تخلق تأثيرا مميزا للموتيف بجعله يتكرر إلى ما لا نهاية.

يحوي المعرض أيضا 23 منحوتة للفنانة الفنزويليّة جيجو، والتي تستفيد من الأسلاك المعدنية وخصائصها الماديّة لصناعة منحوتات تشبه أعمال التجهيز، يمكن التنقل داخلها ولمسها، إذ توظف الأشكال اللا نهائيّة التي يمكن للخط المستقيم أن ينتجها في حال تم التلاعب به وثنيه وتغيير شكله، لنرى أنفسنا أمام منحوتات هشّة تبدو معلقّة في الهواء أو تطفو، لكنها تكوّن أشكالا متقنة إن تأمل فيها الناظر.

تصعب الإحاطة بكافة الأعمال في المعرض لكنه يقدم لنا قراءة لتاريخ أميركا اللاتينية عبر الموتيفات والزخرفات الهندسيّة منذ أن كانت تستخدم بصيغة طقسيّة إلى أن تحولت إلى شكل جمالي
تصعب الإحاطة بكافة الأعمال في المعرض لكنه يقدم لنا قراءة لتاريخ أميركا اللاتينية عبر الموتيفات والزخرفات الهندسيّة منذ أن كانت تستخدم بصيغة طقسيّة إلى أن تحولت إلى شكل جمالي

المثير للاهتمام أن جيجو كانت تسعى دوما لأن تجعل منحوتاتها متغيّرة، لا فقط بسبب الزاوية التي نشاهد منها، بل أيضا بسبب اختلاف الإضاءة وشدتها واتجاهها وحركة الهواء، بوصفها عناصر تؤثر في الظلال والانعكاسات التي تنتجها الأسلاك والتي تعتبرها جيجو جزءا من العمل الفني.

يضيء المعرض أيضا على أعمال الطليعيين من أميركا اللاتينية الذين أثروا وتأثروا بالفن الأوروبي في بدايات القرن العشرين، إذ نرى اللوحات ذات الأشكال الهندسيّة التي أنجزها خواكين توريس غارسيا على الخشب، معتمدا على الشكل المربع والمقاييس المختلفة التي يمكن أن يأخذها، وموظفا تأثير الخشب الطبيعي وخطوطه الأفقية والعامودية على الألوان.

 كذلك نشاهد أعمالا لمؤسس حركة “المادي” الفنيّة كارميلو أردين كوين، الذي يحتفي بالأشكال الهندسيّة والعلاقات بينها، ساعيا لخلق تكوينات جمالية مفاهيمية قادرة على أن تحاكي أغلب الفنون البصرية سواء كانت تزينية أو تشكيليّة.

الزخرفة كوسيلة لتفعيل السحر ضمن الجسد
الزخرفة كوسيلة لتفعيل السحر ضمن الجسد

نتعرف في القسم الثاني من المعرض على أصل هذه الأشكال الهندسية، إذ كانت ولا زال ترسم على أجساد أفراد القبائل الأصليّة لأسباب احتفاليّة ودينيّة، ففي سلسلة من الصور التي التقطها غويدو بوغاياني في القرن التاسع عشر نرصد أشكال المكياج والأقنعة المختلفة التي كانت تُستخدم حينها من قبل قبيلة كاديوي.

 لنكتشف عبرها الحكايات المرتبطة بهذه الأشكال والموتيفات بوصفها قناعا يختزن طاقة سحريّة، وأثرا ماديا لسلسلة من المعتقدات التي تكشف الأدوار الاجتماعية المختلفة، والتي ما زالت محط الدراسات حتى الآن، بوصفها تقدم مفاهيم أنطولوجيّة جديدة ومختلفة عن تلك التقليديّة، هذه المفاهيم أسرت كلود ليفي ستراوس، الذي نشاهد مجموعة من الصور التي التقطها حين كان يتم أبحاثه الأنثروبولجيّة في أميركا الجنوبيّة.

تصعب الإحاطة بكافة الأعمال في المعرض لكنه يقدم لنا قراءة لتاريخ أميركا اللاتينية عبر الموتيفات والزخرفات الهندسيّة منذ أن كانت تستخدم بصيغة طقسيّة إلى أن تحولت إلى شكل جمالي توظفه مختلف أنواع الفنون، وكأن شكل الموتيف الهندسي خزان تاريخي يخفي وراءه حكايات استعمارية وما بعد استعماريّة عن الطريقة التي تتحول فيها الأشكال الثقافية وتتغير أماكن ظهورها بحسب الظروف السياسيّة.

14