ج.ف.ك" أو كيف أعيد فتح ملف اغتيال كنيدي

المخرج أوليفر ستون يدين في الفيلم واشنطن ويبرئ هوليوود، حيث يصور تعدد أصحاب المصلحة في الاغتيال وضلوعهم في مؤامرة جماعية.
السبت 2019/02/09
ستون ابن هوليوود الباحث عن الخلاص الجماعي من عقدة الذنب

قدم فيلم «ج.ف.ك» الذي أخرجه أوليفر ستون في العام 1991 طرحا سياسيا تمثل في وجود مؤامرة جماعية اشتركت فيها أطراف خبيرة وراء اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كنيدي، بسبب نيته توقيع اتفاقية سلام وإنهاء الصراع العسكري وسياسة تصعيد القوى مع الاتحاد السوفييتي. لكن ما يعيبه النقاد على هذا الفيلم أن المخرج لم يتمكن من تقديم معالجة أعمق للقضية، وحشر نفسه في كليشيهات هوليوودية باتت معروفة تتلخص في تجميل صورة المجتمع الأميركي ومحاولة التخلص من الإحساس بالذنب.

أول ما يتبادر إلى الأذهان مع ظهور فيلم «ج.ف.ك» (1991) (وهي الحروف الأولى من الاسم الثلاثي للرئيس الأميركي جون فيتزجيرالد كنيدي) الذي تحول إلى ظاهرة سينمائيةـ سياسية، أن توقيت صنع هذا الفيلم بعد ما يقرب من ثلاثين عاما على وقوع حادثة اغتيال كنيدي في قلب مدينة دالاس بولاية تكساس، يرتبط على نحو ما بإعلان النهاية الرسمية للحرب الباردة بين المعسكرين.

فإذا كان الرأي قد استقر الآن على أن الفضل في إنهاء ذلك الصراع الذي دار خفية وعلانية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، يعود أساسا إلى جهود ميخائيل غورباتشوف، يكون مطلوبا من الناحية الأخرى العودة إلى فحص جذور ذلك التحول الذي حدث وطرح التساؤلات حول أسباب تأخر حدوثه لسنوات طويلة.

إن الطرح السياسي الأساسي في فيلم المخرج اوليفر ستون المثير، هو أن مؤامرة جماعية اشتركت فيها أطراف خبيرة، كانت وراء اغتيال كنيدي لسبب أساسي هو أنه كان يعتزم توقيع اتفاقية سلام وإنهاء الصراع العسكري وسياسة تصعيد القوى مع الاتحاد السوفييتي.

طبقا لهذه الرؤية كان كنيدي، وهو النموذج المثالي الذي يتبناه الفيلم ويحيطه بهالة من السحر والنبل والاستقامة والشرف، سبّاقا في إبداء الرغبة في تحقيق “بيريسترويكا” أميركية!

الرؤية الليبرالية لأوليفر ستون التي تدور حول محوري الشرف والإيمان بالوطن تجعله على استعداد لاختلاق الكثير من الشخصيات والأحداث والمواقف لا وجود حقيقيا لها من أجل تبرير رؤيته

هناك أسباب أخرى كثيرة تتردد في الفيلم لمؤامرة الاغتيال، من بينها أن كنيدي كان يعتزم أيضا إصدار قرار بسحب كل القوات الأميركية من فيتنام، ومواصلة شن الحملة ضد المافيا الأميركية، والتعلم من درس عملية “خليج الخنازير” التي دبرتها المؤسسة الأميركية للإطاحة بنظام كاسترو في كوبا، ثم أدت إلى التصعيد النووي بين المعسكرين.

أن يكون كنيدي وعى الدرس الفاشل في خليج الخنازير (وهو الاسم الذي أطلقته المخابرات المركزية على العملية التي فشلت) يعني أنه استسلم لبقاء النظام الشيوعي في كوبا مع الاكتفاء بفرض الحصار الاقتصادي عليه، وما يؤدي إلى القضاء النهائي على النفوذ المالي والتجاري الكبيرين لعصابات المافيا التي عاثت فسادا في العاصمة الكوبية «هافانا» وجعلت منها عاصمة لتحقيق الصفقات الكبرى في الماضي بالتعاون مع الدكتاتور المطاح به باتيستا. وقد صور فرنسيس كوبولا في فيلمه الكبير (الأب الروحي ـ الجزء الثاني) تفاصيل علاقة المافيا بالمؤسسة الحاكمة الكوبية القديمة.

دوافع المؤامرة

إذا اكتفينا بالأسباب السالفة نستطيع أن نرصد، الدوافع التي عجلت بتنفيذ المؤامرة الجماعية كما يشير الفيلم وهي:

1ـ تقليص دور المؤسسة العسكرية الأميركية (البنتاغون) وما ترتبط بها من مصالح وعلاقات وطيدة مع احتكارات الصناعة العسكرية.

2ـ شل يد المخابرات المركزية في المبادرة بنشاطاتها الرئيسية داخل الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية عموما وجنوب شرق آسيا ومنطقة البحر الكاريبي، وهي البؤر التقليدية للصراع بين المعسكرين.

3ـ حرمان المافيا من مركز رئيسي لنشاطها ومحاولة تقليص نشاطها داخل الأراضي الأميركية نفسها.

4ـ إثارة الغضب الشديد في نفوس المهاجرين الكوبيين الذين تلقوا تدريبات مكثفة على أيدي خبراء المخابرات المركزية وساهموا في عملية «خليج الخنازير» وأرادوا دائما الثأر لفشلهم والعودة كـ«جيش تحرير» كوبي يستلم السلطة بعد الإطاحة المرتقبة بكاسترو.

5ـ إثارة رعب المخابرات الكوبية والسوفييتية بعد أن أصر كنيدي على سحب الصواريخ السوفييتية وفرض الحصار الاقتصادي، مما دفع هذه الأجهزة إلى التسابق للخلاص منه.

هنا تصبح الفرضية الرئيسية للفيلم أن لي هارفي أوزوالد، الذي قبض عليه مساء يوم اغتيال كيندي واتهم بارتكاب الحادث بمفرده، كان في الحقيقة عضوا صغيرا ضمن قافلة طويلة تتكون من فريقي عمل: فريق يقوم بالتنفيذ، بإطلاق الرصاص على كنيدي من جهات عدة في وقت واحد، وفريق آخر يقوم بالتستر على الحادث والتضليل وإيهام الرأي العام بقصة القاتل الفردي (أوزوالد) وجعلها تبدو مقنعة ومصحوبة بالأدلة، أو على الأقل بالدوافع والشبهات.

نظرية المؤامرة الجماعية

ستون لا يستطيع أن يتجاوز النطاق العاطفي الوطني الساذج في ما يطرحه إلى محاكمة أكثر عمقا لطبيعة النظام نفسه
ستون لا يستطيع أن يتجاوز النطاق العاطفي الوطني الساذج في ما يطرحه إلى محاكمة أكثر عمقا لطبيعة النظام نفسه

وراء هذه القافلة من «المحترفين» من رجال المخابرات المركزية، تقف مؤسسات كاملة تضم: وزارة الدفاع، كبار رجال احتكارات السلاح، المافيا، الجماعات المناهضة لكاسترو، المخابرات الكوبية والسوفييتية، أعضاء في الحزبين الديمقراطي والجمهوري ومجلس الشيوخ، وأيضا.. نائب الرئيس الأميركي الذي سيتولى الرئاسة من بعده، ليندون جونسون، إضافة إلى أطباء ومحامين ومحققين شكلوا لجنة «وارين» الشهيرة التي انتهت إلى إصدار تقرير مضحك يؤكد أن أوزوالد كان يتصرف بشكل فردي عندما أطلق الرصاص على كنيدي، ويستبعد فكرة وجود مؤامرة.

تعدد «أصحاب المصلحة» في اغتيال كنيدي وضلوعهم في مؤامرة جماعية على نحو ما يصف الفيلم، ربما كان السبب في تعليق ساخر لناقد إنكليزي شاب قال إن أوليفر ستون «يتهم ببساطة نصف الشعب الأميركي بالإجهاز على كنيدي». لكن المؤكد أن نحو ثلاثة أرباع الشعب الأميركي لا يصدق تقرير لجنة «وارين» بل ويعتقد بوجود مؤامرة، بغض النظر عما إذا كان أوزوالد -كما يوحي فيلم ستون- بريئا أم ضالعا بشكل محدود للغاية!

التساؤلات الكثيرة التي يطرحها أوليفر ستون في فيلمه تدور كلها حول التشكيك في صحة النظرية الرسمية وإلقاء الشبهات على المؤسسة الأميركية في واشنطن. ولكن لأن ستون هو ابن المؤسسة السينمائية الرسمية «هوليوود» فهو لا يستطيع ولا يمكنه أن يتجاوز النطاق العاطفي الوطني الساذج في ما يطرحه، إلى محاكمة أكثر عمقا لطبيعة النظام نفسه، بل ونستطيع القول إن فيلم «ج.ف.ك»، شأنه في هذا شأن أفلام ستون البارزة والمشابهة مثل «بلاتون» و«سلفادور» و«مواليد الرابع من يوليو»، لا يتجاوز كونه محاولة لتجميل وجه المجتمع الأميركي أو بالأحرى تخليص الصورة الأميركية الشعبية من عقدة الإحساس بالذنب. فالجرح القديم الغائر الذي يعيد ستون فتحه بكل قسوة ممكنة في «ج.ف.ك» سبقته محاولات لفتح جروح مشابهة أخرى في فيتنام والسلفادور، بنفس الطريقة وتحقيقا لنفس الهدف.

 والطريقة تتلخص في تبسيط الصراع إلى أقصى حدّ وجعله ينحصر بين الأشرار وأهل الخير، بين القوى اليمينية والعسكرية القبيحة في المؤسسة الرسمية، وقوى الاستنارة والنقاء التي تبحث عن العدالة ولا تألو جهدا من أجل إيصال الحقيقة. وهذه القوى «النقية» مدفوعة بحب وإخلاص شديدين للوطن وللفضيلة والتطهير.

 وقد تكرر هذا الثالوث من قبل في أفلام أوليفر ستون السابقة بما فيها الأفلام التي اكتفى بكتابة السيناريو لها مثل «عام التنين» الذي أخرجه مايكل شيمينو، واتهم بكونه أكثر الأفلام الأميركية شوفينية وعنصرية بسبب معاداته للجنس الأصفر (الصيني) وتبشيره ببطل أبيض نقي متدين يقوم بعملية التطهير ومن ثم، تحقيق الخلاص.

أوليفر ستون برؤيته الليبرالية التي تدور حول محوري الشرف والإيمان بالوطن، تجعله على استعداد لاختلاق الكثير من الشخصيات والأحداث والمواقف وافتعال جمل حوار ووضعها قسرا على ألسنة شخصيات معينة لا وجود حقيقيا لها في الواقع، من أجل تبرير رؤيته وموقفه.

البطل الجديد

يجسد بطل ستون الجديد بوضوح رؤيته هذه، فهو هنا جيم غاريسون (كيفن كوستنر) المدعي المحلي بولاية نيو أورليانز الذي كان أول من قدم قضية اغتيال كنيدي علانية أمام القضاء عام 1967 من خلال خيط فرعي تصور وقتها أنه سيقوده إلى دليل لإدانة بعض «الكبار». فقد ألقى غاريسون القبض على رجل أعمال هو في الوقت نفسه عميل من عملاء المباحث الفيدرالية يدعى كلاي شو، كان معروفا أيضا بشذوذه الجنسي (لاحظ هنا أن السلوك الجنسي عند ستون مرادف للتطرف والإجرام والخروج على قواعد المجتمع الأميركي الطيب). لكن ما حدث في الواقع، أن المحكمة لم تستغرق أكثر من 44 دقيقة قبل أن تبرئ ساحة كلاي شو بسبب هشاشة ما قدمه غاريسون من أدلة ضده.

أما ستون في الفيلم، فهو يختلق شخصية أخرى لشاذ آخر هو الذي يشي بكلاي شو إلى غاريسون ثم يجد علاقة أخرى بين رجل ثالث شاذ أيضا من ضباط المباحث الفيدرالية وشو، ويجعل الأول ينتهي إلى الانتحار موحيا بأنه هكذا يهرب من مواجهة الحقيقة، أي حقيقة ضلوعه في المؤامرة بعد تهديده بفضح حقيقته. ثم هناك على الطرف الآخر، شخصية أخرى مختلقة لضابط متقاعد من رجال البنتاغون يطلق على نفسه في الفيلم «مستر اكس» (دونالد سوذرلاند) يقوم بدور «الملاك الحارس» لغاريسون، فهو الذي يمده بالمعلومات ويدفعه إلى الاستمرار في التحري والبحث وتقديم الموضوع إلى القضاء.

فيلم «ج.ف.ك» شأنه شأن أفلام ستون البارزة والمشابهة مثل «بلاتون» و«سلفادور» و«مواليد الرابع من يوليو»، لا يتجاوز كونه محاولة لتجميل وجه المجتمع الأميركي
فيلم "ج.ف.ك" شأنه شأن أفلام ستون البارزة والمشابهة مثل "بلاتون" و"سلفادور" و"مواليد الرابع من يوليو"، لا يتجاوز كونه محاولة لتجميل وجه المجتمع الأميركي

وهنا قد يتساءل البعض: وما العيب في اختراع شخصيات خيالية في عمل فني؟ والحقيقة أو الجواب هو: لا مانع شريطة أن تلتزم الشخصيات «الإضافية» بالمسار الحقيقي للأحداث وبما نتج في تلك الواقعة الحقيقية المحددة من معلومات وقتها. والعبرة بالطبع ليست في اختلاق شخصيات أو الالتزام الحرفي بالشخصيات الحقيقية، بل في كيفية التعامل معها دراميا.

هناك مثلا تلك الخطبة الطويلة التي تصل إلى نحو عشرين دقيقة من مساحة الفيلم والتي يلقيها غاريسون أمام المحكمة، حيث يصول ويجول في استعراض مهاراته وحنكته مفندا نظرية الاغتيال الفردي، مثبتا أن رصاصة رابعة إضافة إلى الرصاصات الثلاث في الرواية الرسمية، أطلقت على كنيدي من جهة أخرى. لكن الطريف أن ثلاثة أرباع ما يجيء على لسانه عن الوطنية والنزاهة وضرورة توعية الأميركيين بالحقيقة وحقهم في الثقة بمستقبل بلدهم.. إضافة إلى مرافعته ضد المؤسسة العسكرية وتوجيه أصابع الاتهام المباشر لها هي والسي.آي.أي، كل هذا لم يرد لا جملة ولا تفصيلا على لسان غاريسون الحقيقي، لكنه هنا «لسان ستون» ابن هوليوود الباحث عن الخلاص أو التخليص الجماعي من عقدة الذنب.

من ناحية أخرى، كيف يمكن لمخرج يشكو من هجوم الصحافة الرسمية عليه وعلى فيلمه، مصورا نفسه ضحية مؤامرة جماعية أخرى لا تقل عن مؤامرة اغتيال رمزه المقدس «كنيدي» أن يتجاهل قواعد «أفلام التحقيق السياسي» بإهماله لشخصية كنيدي نفسه: أفكاره ومواقفه وانتماءاته الاجتماعية والأقاويل الكثيرة حول علاقاته الغرامية الفاضحة، وحول علاقته بالمافيا وصداقاته الوطيدة مع رجال المؤسسة الرسمية التي صنعته رئيسا ونجما فوق العادة؟

هذا التجاهل المقصود يحدث بالطبع لأن ستون يريد من خلال بناء سينمائي يمتلئ بالثرثرة والحشو والصراخ والصور المهتزة بالحركة البطيئة، أن يجعل كنيدي الضحية الطيبة والبريئة، ويؤكد لجمهوره المتلهف على أداة للتطهير، أن تراجيديا فيتنام ما كان لها أن تستمر، لولا اغتيال كنيدي. غير أن من الطبيعي أن محاكمة رجال الرئيس يجب أن تشمل أيضا الرئيس نفسه.

ولأن الفيلم مصنوع لجمهور ينتمي في معظمه إلى الطبقة الوسطى الأميركية، يصنع ستون علاقة تقليدية شائعة بين غاريسون وزوجته. فالزوجة -كأي امرأة من وجهة نظر مخرج «ذكوري» مثل ستون- لا شأن لها بما يحدث، فهي تبتلع ببساطة كل ما تردده وسائل الإعلام، تهتم بتربية أطفالها أكثر من اهتمامها بالمسؤوليات العامة لزوجها، بل ويجعلها ستون تتخلى عنه في اللحظة الحرجة عندما يبدأ بعض رفاقه في التخلي عنه أيضا، لكنها تعود إليه بعد مصرع روبرت كنيدي، وبعد أن تبدأ في الشعور بالخوف. وفي أحد أكثر مشاهد الحب في السينما شدّة، يمارس الاثنان الجنس!

وتحقيقا لفكرته في إحداث الصدمة، يغوص ستون داخل غرفة العمليات الجراحية وجسد الرئيس مسجى يمارس عليه الجراحون كل أنواع الفحوصات ثم يتوقف أحدهم عن انتزاع رصاصة من ظهره، لكي يهرع إلى الخارج بناء على استدعاء أحد ضباط البنتاغون.

ويتبنى ستون فكرة أن أوزوالد لم يطلق الرصاص على الشرطي في ذلك المساء، وهو الحادث الذي أدى إلى القبض عليه، بل إنه أخرج مسدسه وتأهب لإطلاق النار، غير أن مجموعة من رجال المباحث الفيدرالية وعملاء المخابرات هم الذين أطلقوا النار من الخلف ثم لفقوا التهمة للمسكين أوزوالد. وهي نظرية تبدو منسجمة تماما مع خيال صادر عن عقلية أدمنت مشاهدة أفلام هوليوود البوليسية.

يبدو فيلم «ج.ك.ف» ظاهريا عملا شجاعا في نقده للمؤسسة الأميركية، إلا أنه لا يحقق سوى الإحساس بالخلاص النفسي والروحي لجمهوره الذي يحدق مشدوها إلى “الألعاب النارية” المتكررة التي تجري على الشاشة لمدة ثلاث ساعات، لكنه يخرج في النهاية أكثر جهلا بالموضوع من ذي قبل. فالذي ينتصر هنا هو النجم: أي كنيدي.

16