"جزيرة الذهب".. مسرحية تغني للحياة وتتغنّى بالفنون

المسرحية مستوحاة من الثقافة اليابانية حيث يسافر المُشاهد إلى جنّة متخيلة يستعيد فيها آماله الضائعة.
الاثنين 2021/11/15
جزيرة الذهب.. موطن كلّ الممكنات

على خشبة مسرح الشمس بباريس تقدّم المخرجة الشهيرة أريان منوشكين عملا مسرحيا جديدا بعنوان “جزيرة الذهب” استوحته هي والكاتبة هيلين سيكسو من الثقافة اليابانية، تدعو من خلاله المتفرّج إلى جنّة متخيلة يستعيد فيها الفرد آماله.

بعد “غرفة في الهند” تعود شيخة المسرح الفرنسي أريان منوشكين (82 سنة) للتعامل مع الكاتبة هيلين سيكسو في صياغة عمل فرجوي مشترك يتوجّه إلى كافة الأعمار وسائر الشرائح المجتمعية لكونه يحتفي بالتسامح والمحبة والبراءة والتطلع إلى المستقبل بعيون متفائلة.

مرة أخرى تلتقي السيدتان على مسرح الشمس، المسرح الذي أسّسته منوشكين عام 1964 في باريس لتقدّما عملا جديدا بعنوان “جزيرة الذهب”. هل أن هذه الجزيرة موجودة على أرض الواقع؟ وأين توجد؟ “نعم”، تقول الكاتبة هيلين سيكسو.

وتضيف “هي موجودة في مياه اليابان، وهذه ليست أول مرة، إذ سبق أن وجدت، وسوف توجد أكثر من مرة في سرديات وقائع آمالنا وخيباتنا. كلما شارف العالم على تدمير نفسه بنفسه، ينهض مدافعون عن الشرف والأمل للبحث عن سفينة، كسفينة نوح، واللجوء إلى الجزيرة، جزيرة الذهب، التي تبدو منفى، ولكنها في الواقع ملاذٌ وبداية حياة جديدة.. هي تُدعى فعلا ‘جزيرة الذهب’، ولكن ما الذّهب؟ بالنسبة إلى شخصياتنا المدافعة عن الشرف، ليس ذهبَ المناجم والبنوك، وإنما هو ذهب الضيافة، الذهب البريء خارج الخزائن، ذهب مآدب الصداقة، الذهب الطيب الذي سوف يسمح بانتعاش الذكاء ومجيء عيد الشفاء القادم”.

العمل مليء بالأحلام والكوابيس حيث يمتزج الخوف من واقع تسكنه الكوارث والرغبة في تجاوزه بالرقص والغناء

بعضهم يعتقد أن الجزيرة نائمة في مكان ما، جنب منفيّين مشاهير، غير بعيد عن السواحل اليابانية، في شمالها الغربي تحديدا. وآخرون يرون أن لها شبها بـ”يوتوبيا”، تلك الجزيرة التي تخيلها الكاتب الإنجليزي توماس مور. ولكنها تحيل أساسا إلى جزيرة سادو التي كانت تستقبل المنفيين والمبعَدين وسائر المغضوب عليهم من أهل الفكر والأدب والفن، مثل ممثل مسرح “نو” زيامي موطوكيو (1363 – 1443).

تلك الجزيرة التي صارت تعرف بجزيرة الذهب، مذ تمّ اكتشاف منجم ذهب في أعماقها عام 1601، ولكنّها هنا كناية عن العالم، وبالأحرى عن عالم يتداعى، وآخر ينهض على أنقاضه.

“عند الكوارث، أُعطونا جزيرة وسوف نخلق بلا توانٍ عالما جديدا!”، يقول أبطال المسرحية، وما يلبث أن يقبل إلى جزيرة الذهب من شتى أصقاع الدنيا كلُّ الناجين من الكوارث، حيث تستوي الأجناس وتتلاحم الثقافات وتبتدع لغة توحّد الجميع. فالجزيرة هي موطن كل الممكنات. فهل هي خرافة أم واقع أم حلم أم كوميديا؟

هي كل ذلك على الخشبة، وإن كانت كل الدلائل تشير إلى أن الجزيرة توجد في المياه اليابانية، حيث سافرت منوشكين منذ صغرها وانبهرت بأداء ممثل شاب على خشبة مسرح صغير بحي أساكوسا في طوكيو، قبل أن تكتشف مسرحية “نو” في الهواء الطلق بكوبي، وتنبهر بهذا الشكل المسرحي الفريد وتسعى لتمثّله. وهو ما أكّدته في الكلمة التي ألقتها بمناسبة تسلمها جائزة كيوطو للفنون والفلسفة عام 2019.

لوحة فنية بسعة الكون
لوحة فنية بسعة الكون

لإعداد هذه المسرحية تدرّبت فرقة أريان منوشكين على مبادئ مسرح “نو” المعروف ومسرح “كيوجين” (الشكل الكوميدي في المسرح التقليدي الياباني)، لتقدّم عرضا فرجويا يجمع بين المسرح والرقص والموسيقى والغناء، ويحتفي فيه القادمون من شتى الأصقاع بما يسمونه ثقافة القلب ضد ثقافة السلطة وقتلة الفكر، تنفيسا عن الغضب ولكن بتحويله إلى أداة فعل إيجابي، في محاولة لإضاءة فوضى العالم، واقتراح أفراح ممكنة. وهي إلى ذلك “بمثابة تحية إلى كل الذين تعلمنا منهم وأخذنا عنهم، وتحية إلى أعلام المسرح، يابانيين وهنودا وغربيين”، كما صرّحت المخرجة الشهيرة.

“جزيرة الذهب” مسرحية تغني للحياة كما تغني للمسرح. يمكن اعتبارها تتمّة لـ”غرفة في الهند”، فالبطلة كورنيليا حاضرة هنا أيضا، وكذلك الجو المرح الذي يتجلى أثره في تخفيف وقع المآسي في النفوس، فهو يرافق حرية الذهن الذي يربأ بنفسه عن كل تفكير يتدنى إلى مجرد شعارات، ويسعى جهده لتجاوز المحن، وتحويل غضبه إلى أشياء إيجابية تفيده وتفيد كل من حوله.

والمسرحية في أكثر من وجه، كسابقتها، أي لوحة فنية بسعة الكون، وعرض فرجوي رائع لعدد لا يحصى من الممثلين والممثلات والراقصين والراقصات، يحمل المتفرّج إلى عالم مليء بالأحلام والكوابيس، حيث يمتزج الخوف والرغبة، الخوف من واقع تسكنه المصائب والكوارث، آخرها هذه الجائحة التي عطلت العرض لمدة عام، والرغبة في تجاوز ذلك بالرقص والغناء والمرح على أنغام الموسيقار جان جاك لوميتر، في جو ملؤه التفاؤل بغد أجلى أفقا، وواقع أكثر حبورا ومسرات.

وقد اعتادت أريان منوشكين أن تكتفي بعملها، فلا تعليق ولا شرح لمقاربتها الفنية. حسبها أن مسرحها موجود وأنه يعمل، ويتغذّى من ذاكرات شتى ورغبات لا حصر لها، محمولا بحزم أعضائه وعزيمتهم، وأنها ربّان سفينة تجوب بحار الإبداع، وقد أرست هذه المرة على السواحل اليابانية. فلا مطمح لها سوى إنجاز فنها بالطريقة التي ترضيها وترضي جمهورها. تقول في هذا الصدد “ننتظر بفارغ الصبر تلك اللحظة الهامة التي يلتقي فيها نهران: العرضُ والمشاهدون الذين جُعل العمل المسرحي لأجلهم”.

14