جريدة "المزمار"

كنت في الرابعة عشرة من عمري حين نشرت أول مرة في حياتي مقالا عن الصحافة في جريدة “المزمار” التي تصدر شهريا عن دائرة ثقافة الأطفال، التابعة لوزارة الثقافة العراقية، والمكرّسة لليافعين دون سن 18. لا أتذكر الآن الأفكار التي دونتها في ذلك المقال، لكنه كان عن أهمية الصحافة في حياة الناس، وفهمي البسيط للعمل الصحافي من خلال متابعتي وقراءتي للصحف اليومية التي كانت تصدر في بغداد آنذاك، حين كنت في الصف الثاني المتوسط.
كانت فرحتي يومها لا تسعها الأرض، وأنا أرى اسمي منشورا إلى جانب المقال، فاشتريت مجموعة نسخ ووزعتها على زملائي. ومن وقتها أصبحت “المزمار”، التي كانت إدارتها توزع من كل عدد عشرة آلاف نسخة، صديقتي التي أنتظر صدورها بفارغ الصبر. كنت أقرأها من الغلاف إلى الغلاف، واستمتع جدا بالقصص المصورة التي تنشرها، وكانت الجريدة تسميها “السيناريو”، وهي ما يُصطلع عليها الآن بـ”الكوميكس”، فتقرأ مثلا (سيناريو: فلان، ورسوم: فلان).
ولأني كنت أمارس التمثيل المسرحي، آنذاك، فإن الحوارات التي تتضمنها تلك “السيناريوهات” كانت تجذبني كثيرا، فكتبت أكثر من “سيناريو” على غرارها، ونشرتها في الجريدة، خلال مرحلة دراستي الثانوية، ثم في ملاحق أخرى للأطفال كانت تصدر عن الصحف العراقية. وأعتقد بأن تلك القصص المصورة لعبت دورا مهما في نزوعي إلى تضمين القصص القصيرة والروايات، التي صرت أكتبها لا حقا، فقرات طويلة من الحوار بين الشخصيات.
تأسست “المزمار” عام 1970، ونُشر العدد الأول منها في 12 ديسمبر، وتحولت في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي إلى مجلة أسبوعية، يُطبع من كل عدد (250) ألف نسخة، وتوزع ليس في عموم العراق فقط، بل في العديد من الدول العربية. وقد شهدت قفزة كبيرة بجهود رئيس تحريرها الشاعر فاروق سلوم، الذي يُعدّ من أبرز شعراء قصيدة الطفل في العراق والعالم العربي (أصدر 22 كتابا للأطفال، وحاز ديوانه “أغاني الحصان” على جائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1982).
لكن مجلة “المزمار” أخذت تمر بظروف صعبة، منذ التسعينات من القرن الماضي، نتيجة الحصار الاقتصادي، وتدهورت بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 أكثر نتيجة هجرة الكفاءات، وسوء الإدارة والتسويق، وشحة الدعم المالي، وعزوف أغلب الرسامين وكتّاب “الكوميكس” والمواد الأخرى الذين كانت تتعامل معهم بسبب قلة المكافأة المالية، التي لم تعد تكفي لشراء الأحبار ومستلزمات الرسم والتصميم، قياساً إلى ما يصرف للعاملين في مؤسسات ثقافة الطفل في البلدان المجاورة. ولم يصدر من المجلة عام 2011 سوى 6 أعداد، لا تتجاوز كمية كل عدد 7 آلاف نسخة! وهي الآن شُبه متوقفة للأسف.
لم تقتصر إصدارات دائرة ثقافة الأطفال فقط على “المزمار وشقيقتها “مجلتي”، المخصصة للأطفال، بل أصدرت مجموعة هائلة من الكتب المسلسلة، بعضها بصيغة “الكوميكس”، هي: السلسة العلمية، السلسلة القصصية، السلسة الشعرية، سلسلة البراعم، السلسلة التاريخية، حكايات شعبية، سلسلة هوايات، وكتب مترجمة.
وقد شكّلت خلال سنوات طويلة مكتبة ثقافية مهمة جدا للأطفال العراقيين والعرب. ومن المؤسف جدا أن يندثر هذا المنجز، حتى أن أحد أبرز كتّاب أدب الطفل في العراق، وهو عبدالرزاق المطلبي، أطلق مؤخرا صرخة حزن مؤثرة، قائلا إنه يحتضر الآن، وفي طريقه إلى التلاشي تماما.