جراح النساء المخفية قد لا تندمل أبدا

أغلب الجراحات الشخصية في عالم اليوم إمّا مخفية خلف مساحيق مصطنعة وصور اجتماعية نمطية، وإمّا مخفية بالتجاهل كما نرى لدى حالات تعيش البؤس والفقر المدقع دون حياة بشرية كريمة، وهو ما نغض النظر عنه، لكن ما نخبئه أو لا نعيره أيّ اهتمام تأتي الرواية محملة بكامل عدتها الفكرية واللغوية والجمالية والسردية لتكشفه وتعريه ثم تضعه أمامنا مُطلعة إيانا على حقائقه.
ترمز الفرنسية ليتيسيا كولومباني عنوان روايتها “الضفيرة”، والتي تعني جمع ثلاث خصلات من الشعر، ثلاث حزم متداخلة، لتكون الإحالة من حيث الجمع والتداخل إلى شخصيات بطلات الرواية الثلاث، من ثلاثة مواقع في قارات مختلفة، من الهند وصقلية وكندا، يجمعهن شغف واحد للحرية.
تدور أحداث الرواية، الصادرة عن منشورات المركز الثقافي العربي – بيروت، من ترجمة معن عاقل، عن الحب والأمل والتحدي في مواجهة الصعاب التي تواجه المرأة في حياتها، سواء كانت في الشرق أو الغرب، متعلمة أو لم تنل حظها من التعليم.
وفي مقدمتها التي تعد جزءا من نسيج الرواية، التي كتبتها كولومباني بطريقة شعرية ترميزية أيضا، تلفت إلى أن هذه بداية حكاية جديدة كل مرة، تنساب تحت أصابعها، وتصور بنيان الرواية الذي يشبه البناء الذي يعده النساج نفسها قبل الإقدام على عملية النسج، تقول إنه في البداية هناك الحامل، ولا بد للهيكل أن يكون متينا ليتحمل الكل، من الحرير أو القطن، للمدينة أو المسرح، لكل منهما حسابه.. وتشير بعدها إلى أنه لا بد من البدء بهدوء.
هامش الإنسانية
تنتقل كولومباني إلى ما تقول إنه مرحلة الحبكة، وتعتبر أنها الجزء الذي تفضله، وعلى النول أمامها تتمدد ثلاثة خيوط نايلون، تمسك الخصلات في حزمة، ثلاثا ثلاثا، تعقدها دون أن تتقصف، وتبدأ من جديد لآلاف المرات.. وتؤكد أنها تحب ساعات العزلة التي تمضيها مع كائناتها، وتصف الأمر بأنه باليه تؤديه أناملها، تكتب حكاية ضفيرة وجدائل، وهذه الحكاية هي حكايتها، ومع ذلك لا تخصها.
وتتابع الرواية سميتا الهندية من قرية بادلابور، في ولاية أوتار براديش، تنتمي إلى جماعة الداليت المنبوذة، إنها من أولئك الذين سماهم غاندي أبناء الله. إنهم خارج الطبقات الاجتماعية، خارج النظام، خارج كل شيء. فئة معزولة، حُكم عليها بأنها أنجس من أن يختلط بها الآخرون، ونفاية غير جديرة بأن يتولوا أمر فرزها، كما يفصلون الخير عن الشر. تقول الروائية بأسى إن هناك الملايين من أمثال سميتا يعيشون خارج القرى وخارج المجتمع، على هامش الإنسانية.
تصف حياتها بالبائسة المكررة، في كل صباح تمارس الطقس نفسه، تستيقظ سميتا في كوخ صغير تستخدمه كمنزل، قرب حقول زرعتها طبقة مزارعي “الجات”، تغسل وجهها وقدميها بماء جلبته أمس من البئر المخصص لجماعتها، ومن المستحيل الاقتراب من البئر الآخر، بئر الطبقات الأعلى، مع أنه قريب ويسهل الوصول إليه.
تشير الكاتبة إلى أن حياة سميتا اليومية عبارة عن روتين من التعذيب، فتراها بعد أن تجهز نفسها، تحمل سلتها المصنوعة من أغصان الأسل المجدولة، هذه السلة التي كانت تحملها أمها قبلها، وتسبب لها الغثيان لمجرد رؤيتها، هذه السلة ذات الرائحة المتأصلة، الحادة دائما، التي تحملها طوال النهار كما يحمل المرء صليبه، هي عبء مخز، هذه السلة هي محنتها؛ لعنة وعقاب.
وتجد سميتا نفسها متسائلة إن كانت قد اقترفت ذنبا في حياة سابقة، ويجب أن تدفع الثمن لتكفر عنه، وعلى أي حال ليس لهذه الحياة أهمية أكثر من الحيوات السابقة ولا اللاحقة، إنها حياة مثل الحيوات الأخرى، كما كانت تقول أمها، هكذا هي حياتها، لذلك تصر على أن تكون حياة ابنتها مختلفة، أن تذهب إلى المدرسة وتتعلم القراءة والكتابة.
البطلة الثانية جوليا من باليرمو بصقلية، تنهض بأعباء ورشة والدها، وتبدو مكلفة بحماية إرث العائلة، لذلك تؤدي واجباتها من دون أيّ تذمر، لكنها شغوفة بقراءة الكتب، ولا تبحث عن زوج، ولا تتردد على المقاهي والحانات، اعتادت أمها أن تقول عنها “إنها منزوية قليلا”. تفضل جوليا الصمت المطبق للمكتبة العامة على صخب المراقص الليلية. تحب أجواء القاعات الكبيرة المفروشة بالكتب التي لا يكدرها إلا حفيف الصفحات. حين تقرأ جوليا لا تشعر بمرور الوقت، تعيش أجواء الكتب التي تغوص فيها.
عمل وأمل
الشخصية الثالثة سارة من مونتريال بكندا، وتتبدى بدورها وكأنها تصارع الزمن منذ لحظة استيقاظها حتى لحظة نومها، وما إن تفتح عينيها حتى يشتغل دماغها مثل معالج جهاز كمبيوتر. تقول إنه مضى زمن اللامبالاة، وزمن ما قبل العمل والأمومة والمسؤوليات، حين كان يكفي اتصال هاتفي ليغيّر مجرى نهارها، وبات كل شيء مخططا ومنظما ومتوقعا. لم يعد ثمة ارتجال في حياتها، ثمة دور تحفظه وتمثله وتكرره كل يوم وكل أسبوع وكل شهر وكل عام.
تذكر أنها بسبب انهماكها في العمل اضطرت سارة إلى أن ترفض تقاسم الكثير من اللحظات مع أبنائها؛ الابتعاد عن الدروس المدرسية واحتفالات رأس السنة وعروض الرقص ووجبات أعياد الميلاد والعطل الصيفية، وكانت تعرف أن تلك اللحظات لا تعوّض، وكان هذا الخاطر يحزنها. وكانت تعرف حق المعرفة هذا الشعور بالذنب لدى الأمهات العاملات، وقد أرهقها هذا الشعور منذ ولادة هانا، حين اضطرت إلى تركها لدى مربية، وكان عمرها خمسة أيام فقط، لتلتحق بالعمل.
بنت سارة جدارا كتيما محكما بين حياتها المهنية وحياتها العائلية، ولكل حياة منهما مجراها، مثل خطين مستقيمين متوازيين لا يلتقيان، وكان جدارا هشا ومزعزعا يتصدع أحيانا، وقد ينهار يوما. وكان يروق لها أن تفكر بأن أبناءها سيفخرون بما بنته وما أصبحت عليه حالها. أرغمت نفسها على تعويض عدد اللحظات التي تمضيها معهم بنوعيتها.
تظهر الروائية هشاشة بطلتها سارة، وأنها حين كانت تنظر في المرآة كانت ترى امرأة في الأربعين نجحت في كل شيء، لديها ثلاثة أبناء، ومنزل مرتب في حي راق، ومهنة يحسدها عليها الكثيرون، وكانت على صورة أولئك النساء اللاتي نراهن في المجلات، مبتسمة وكاملة، أما جرحها فلم يكن مرئيا، كان خفيا، لا يمكن اكتشافه تحت مساحيق التجميل المتقنة وأثوابها المقتناة من عند الخياطين المشهورين. لكنها كانت هناك، مثل آلاف النساء في بلدها، كانت سارة كوهن مشطورة إلى قسمين، كانت قنبلة جاهزة للانفجار.
تجدل كولومباني حكايات بطلاتها بروابط التحدي والصبر والمواجهة والتمرد، سميتا لا تقبل أن تطرد ابنتها من المدرسة، وتصر على تعليمها، جوليا لا ترضى بالزواج من الرجل الذي اختير لها، وهو تاجر ثري يفترض أن ينقذ عائلتها من الفقر، في حين أن سارة التي تكاد تبدو مثالية في تفاصيل حياتها وعملها، تصاب بالمرض، وتقرر التحدي والتحلي بالصبر والأمل.
تحكي كولومباني كيف أن حياة كل شخصية من شخصياتها تنقلب بصيغة أو أخرى، بحيث تبدأ في البحث عن سبل لترميمها ومجابهة الآخرين الذين يبدون وكأنهم متربصون بهن في رحلة حياتهن الشاقة، والتي تبدو كلوحة من الصعوبات تتجدد يوما بعد يوم، ولا تكاد تهتدي إلى أي سبيل للتهدئة أو الثبات.