جدل الحج وانقلاب الأدوار

مع اقتراب موعد الحج، وككل سنة يحدث جدل واسع في تونس حول تكاليفه وتكاليف أضاحي العيد. وينقسم المثقفون والنشطاء السياسيون إلى شقين، واحد علماني عقلاني يقول إن الضرورات تبيح المحظورات، والبلاد في وضع صعب أولى بها أن تحتفظ بثروتها من العملة الصعبة ومن ثروة الخرفان لنفسها إلى حين تستوي الأمور في سنوات قادمة. وشق إسلامي محافظ يناقش الحق في الحج والأضحية من باب الحرية الفردية.
تناقض في الأدوار، حيث صار العلماني واليساري يحاجج من داخل مفردات الدين، فيما المحافظون يتحدثون عن حرية الأشخاص في فعل ما يريدون طالما أن هذه أموالهم ينفقونها حيثما أرادوا واشتهوا.
يحتكم هذا الجدل إلى خلفية أخرى مخفية، ثاوية كما يقول المثقفون، مفادها أن العلمانيين التونسيين لا يجاهرون برفض المقاربة الدينية بشكل واضح في مختلف أحكامها، ولكن يميلون إلى المناورة الذكية، فقد صاروا مع الدين ومنافحين عنه، وينطلقون منه في مهاجمة الإسلاميين الذين بحثوا عن مرفأ آخر. أخذوا مكان العلمانيين بأن صاروا يدافعون عن أفكارهم من بوابة الحريات الفردية والقيم الوافدة التي كانوا يكفرونها (حرية لبس النقاب والحجاب وذبح الأضحية والحج).
صار الإسلاميون علمانيين في واجهة من واجهاتهم، يجدون “فتاوى” لأكثر الأشياء صعوبة كما حصل مع “تخريجات” تفتي بجواز المثلية وتجيز فتح المقاهي والمطاعم في رمضان. طبعا هي علمانية تحت الطلب لتبرير لبوس الإسلاميين جبة الليبرالية والتحديث وطلب المقبولية لدى الآخر.
وضمن سياق تدين “غلاة” العلمانية وسعيهم للمصالحة مع الدين وأهل الدين، ذهب أحد أبرز اليساريين إلى مقام أحد الصوفيين (الأولياء الصالحين) في إحدى مدن القيروان للتبرك، وحريص على أن تظهر في مواكبه بنات مـحجبات.
طبعا هذا ماعون صنعة كما يقول البناؤون، أي أدوات لكسب التعاطف وتبديد صورة قديمة تضع العلماني بمنأى عن الدين، والإسلامي في خصومة مع التحديث.
ونعود إلى الحج الذي بات مناسبة سنوية لدى العلمانيين التونسيين للحديث عن التقشف والعملة الصعبة وخسائر البلاد، وفي نفس الوقت يحثون من ينوي الحج على أن يتصدق بأمواله لبناء المستشفيات والمدارس وتحسين الخدمات، بزعم أن تونس أولى بأموالها من السعودية التي تعيش في بحبوحة من أموال النفط وعائدات العمرة والحج.
وكان هذا الطلب واضحا على لسان نقابة الأئمة والعاملين في الشؤون الدينية، وهي خليط من يساريين وإسلاميين وبراغماتيين (أرأيتم فيض الديمقراطية أين وصل). النقابة دعت رئيس الجمهورية إلى التدخل لـ”إلغاء” حج هذا العام.
ورد عبدالطيف المكي، أحد وزراء الإسلاميين السابقين، بتدوينة تحدث فيها عن “انقلاب الأدوار”. وحث النقابة “إذا مشفقة على الاقتصاد (…) أن تدعو الناس إلى الكف عن شرب الخمر والتدخين خاصة المستورد منه بما أنهما بالعملة الصعبة وبما أنهما مضران بالصحة” بدل الدعوة إلى إلغاء الحج.
المفارقة أن البسطاء من الناس الذين يتسابقون للحصول على مكان في الحج، وأحيانا باعتماد الوساطات والمعارف، لا تعنيهم هذه الفتاوى، ولا يسمعون لها أو ربما لا يسمعون بها.