جبهة الخلاص: الخلاص في حفظ ماء الوجه

انفضاض الأنصار عن مظاهرات جبهة الخلاص واحتجاجاتها لم يكن سوى رسالة واضحة على ضرورة أن تراجع الجبهة وضعها وتلتفت إلى ما يمكن أن يهمها بعيدا عن المزايدات.
الأربعاء 2023/11/22
شعارات تعمق القطيعة بين جبهة الخلاص والشارع

لا تتوقف جبهة الخلاص الوطني في تونس عن الظهور في الشارع بأعداد قليلة من المساندين. الهدف الوحيد للجبهة، وهي مزيج من بعض وجوه يسار الوسط المتحالفين مع حركة النهضة بشكل تكتيكي ظرفي، هو انتقاد قيس سعيد وحكمه وتذكير الناس بأن إجراءات 25 يوليو 2021 “انقلاب”.

لا أفكار لها ولا برامج سوى قيس سعيد، وهو ما يفسر تجاهلها سياسيا وشعبيا. فلمن تعرض خلاصها إذا كان الناس قد انفضوا من حولها، أليس الأولى أن يتحول ذاك الخلاص إلى الجبهة ذاتها لتخليصها مما وصلت إليه من تضاؤل في الحجم وتكرار في الخطاب وابتذال في الأساليب.

قد يكون توقيت تشكيلها مفهوما في الفترة التي أمسك فيها قيس سعيد بكل السلطات وحل البرلمان وأوقف رواتب النواب. كان الهدف إظهار أن المعارضة قوية وأن لها رموزا مثل المعارض التاريخي أحمد نجيب الشابي. بعثت برسائل إلى الداخل والخارج، لكن لا أحد تلقاها أو تأثر بها وتفاعل معها.

الداخل لديه قصة مع المعارضة من مكونات جبهة الخلاص ومن خارجها، وخاصة الوجوه أو المجموعات الصغيرة من يسار الوسط، الذين تحالفوا مع النهضة وحكموا البلاد من فترة الترويكا (2012 – 2013) إلى حكومة إلياس الفخفاخ أو ما كان يعرف بـ“حكومة الرئيس” و“حزام الرئيس” في 2019 ثم حكومة هشام المشيشي.

يرجح أن تجد حركة النهضة أن خلاصها يتم من خلال الخلاص من جبهة الخلاص حتى وإن عاودت استعداء أحمد نجيب الشابي وحرمته مجددا من أن يظهر في ثوب الزعيم الذي يضع قدمه على عتبة قصر قرطاج

لم تكن غالبية الشارع التونسي مهتمة بالصراع السياسي في تفاصيله طيلة عشر سنوات من الفوضى. ما يهمها هو وضعها المعيشي ومستوى الخدمات التي تحصل عليها.

الصورة في مجملها انتهت إلى كراهية الطبقة السياسية والنقمة على الديمقراطية والانتخابات والبرلمانات. الناس لم يكونوا بحاجة إلى ديمقراطية جوعتهم وفقرتهم وقادت المؤسسات الخدمية إلى التخلي عن دورها. ولذلك تفاعل الشارع وبنسب عالية مع قيس سعيد وانتخبوه رئيسا في 2019 لأنه بلا حزب ولم تكن له يد بشكل أو بآخر في ما وصلت إليه البلاد من أزمات خانقة.

المفارقة أن الناس يستمرون بدعم قيس سعيد كرئيس ويقاطعون الانتخابات والاستفتاءات ومختلف المناسبات السياسية، وهذا من مخلفات عشرية الانتقال الديمقراطية التي دفعت الناس إلى كراهية صناديق الاقتراع وقوائم المرشحين والخطباء.

والجبهة في قلب هذه الصورة، بل ربما هي المشكلة الرئيسية لها، لأنها تضم حركة النهضة التي حكمت البلاد بأشكال وتحالفات مختلفة ويحمّلها الناس مسؤولية ما وصلوا إليه من وضع اقتصادي صعب وتراجع في منظومة الخدمات وتخلي الدولة عن أدوارها في الوقوف إلى جانب الفئات المحدودة والمهمشة، ودفع الطبقة الوسطى إلى مربع التهميش.

يمكن أن تقول حركة النهضة إنها ليست مسؤولة وإن الوضع انفلت بشكل تصعب السيطرة عليه، وإنها لا يمكن أن تتحمل المسؤولية لوحدها، لكن ما يهم الناس أن تجربة حكمها أضعفت الاقتصاد وأربكت الدولة وأغرقت المؤسسات بعشرات الآلاف من الموظفين من دون حاجة إليهم سوى الترضيات الحزبية والسياسية وشراء السلم الاجتماعي على حساب الدولة وقدراتها، وهي قدرات محدودة ودقيقة والعبث بها لا يمكن أن يتم تصويبه.

في هذا المناخ من الصد، كيف تريد جبهة الخلاص أن يستمع الناس لها، وهي تسجل حضورها بمناسبة وغير مناسبة، وتطلق نفس التصريحات والمواقف وتكررها أحيانا دون وجود حدث يستدعي ذلك، فما كان يقال بعد 25 يوليو 2021 ليس نفسه ما يقال الآن، الوقت يتغير ووعي الناس يتغير والظرف السياسي يتغير، لكن لا يبدو أن جبهة الخلاص معنية بهذا التغيير، وهي تستمر في إطلاق نفس المفردات والشعارات.

يفترض أن التغييرات التي تحيط بالبلاد تدفع جبهة الخلاص نفسها إلى أن تتغير وأول علامات التغيير أن يقتنع قادة الجبهة  بمحدودية أثرهم السياسي، وأن يراجعوا دور الجبهة، هل ما زال لها من تأثير وهل ثمة لزوم لأن تستمر في الظهور بشكل أسبوعي لترفع الشعارات بشكل كاريكاتوري يعمق القطيعة بينها وبين الشارع، ويزيد من عزلة السياسيين وكراهية الناس لأي انتقال سياسي.

ما هي المشروعية التي تستند إليها جبهة الخلاص في الدعوة إلى مقاطعة انتخابات المجالس المحلية، وهل أن مقاطعة هذه الانتخابات، والمشاركة المحدودة فيها كما هو متوقع، سيفهمان على أنهما استجابة لدعوة الجبهة، وهل يعتقد قادة الجبهة أن رأيهم يقدم أو يؤخر في السياسة أو الانتخابات حتى لو لبسوا لبوس القضية الفلسطينية وزايدوا في موضوع قانون تجريم التطبيع، وقد هربوا في السابق من تمريره.

لا أفكار لها ولا برامج سوى قيس سعيد، وهو ما يفسر تجاهلها سياسيا وشعبيا. فلمن تعرض خلاصها إذا كان الناس قد انفضوا من حولها

لم يكن انفضاض الأنصار عن مظاهرات جبهة الخلاص واحتجاجاتها سوى رسالة واضحة على ضرورة أن تراجع الجبهة وضعها، وتلتفت إلى ما يمكن أن يهمها غير المزايدات. ولعل أول خطوة هي مراجعة وضع الجبهة ووجودها، وهل هي فعلا تستحق البقاء، خاصة أنها التقاء ظرفي كانت مهمته التكتل لمعارضة قيس سعيد وإسقاط مسار 25 يوليو. وطالما أن المهمة فشلت، فلماذا لا يمتلك قادة الجبهة الجرأة ليعلنوا عن انتهاء المهمة بحل الجبهة من دون إغلاق الباب أمام تحالف مستقبلي.

من المرجح أن ينتهي الوضع إلى إعلان حل الجبهة قريبا. وهناك مؤشرات تأتي من بيت حركة النهضة تدعم هذا التوقع حتى لو رفض الشابي ذلك.

لا شك أن حركة النهضة، التي سبق أن غيرت اسمها وتخلت علنيا عن فكرة تطبيق الشريعة، لا يصعب عليها الانسحاب من جبهة بات ضرها أكثر من نفعها. بحثت النهضة عن غطاء لمعارضتها لمسار 25 يوليو 2021 وأعادت تحالفها مع الشابي بالرغم من الخلافات الكبيرة معه بهدف إقناع الخارج بأنها لا تتحرك بمفردها. لم يفلح الشابي وبعض الوجوه غير المعروفة من يسار الوسط في تحقيق ما تريده النهضة، ولم يأت أي تفاعل من الخارج ولم يتم الضغط على قيس سعيد لصالحها، وهو ما سيدفعها إلى تغيير التكتيك.

وتعطي حركة النهضة الأولوية حاليا لورقة التقارب مع السلطة، وإرسال الإشارات إلى رغبتها في ذلك والتلويح بالتنازلات. وهي تعرف أن قيس سعيد لن يصدقها ولن يلتفت إليها، لكن الهدف هو إظهار أن النهضة لم تعد تريد إسقاط السلطة، وأن الاعتقالات أضرت بها، وهي لا تريد سوى التهدئة. وهذه طريقة لمنع استمرار السلطة في مسار تفكيك الحركة.

ويأتي تعيين أمين عام جديد في شخص العجمي الوريمي ليحمل إشارات على أن النهضة مستعدة لتعيين قيادة جديدة من دون راشد الغنوشي وعلي العريض ونورالدين البحيري، الصقور الذين أساؤوا في خطابهم لقيس سعيد، وها هي النهضة تتخلص منهم ولو رمزيا من أجل فتح صفحة جديدة مع السلطة. وهي على استعداد لأن تزيل كل العلامات والإشارات التي يفهم منها التصعيد والإساءة ولأجل ذلك قد يأتي قريبا الدور على جبهة الخلاص.

يحظى الوريمي بشعبية داخل النهضة وبصداقات واسعة خاصة مع اليسار بمن في ذلك الموجودون في السلطة مثل رضا شهاب المكي الذي يعد أحد مفاتيح الاقتراب من قيس سعيد لدى النهضة. كما أن الأمين العام الجديد لم يسبق له أن هاجم قيس سعيد، ويمكن أن يكون ذلك عنصرا مساعدا على التهدئة.

في كل الحالات، يرجح أن تجد حركة النهضة أن خلاصها يتم من خلال الخلاص من جبهة الخلاص حتى وإن عاودت استعداء أحمد نجيب الشابي وحرمته مجددا من أن يظهر في ثوب الزعيم الذي يضع قدمه على عتبة قصر قرطاج.

9