جاهزية عالية

لكل نوع من النشاط الإنساني أدبياته التي تواكبه وتترصده بالنقد. فللأحزاب السياسية وللتجارب المتنوعة في كل ميدان أدبياتها. وحتى الطب بكافة تخصصاته له أدبيات، ترصد الظواهر وتُعنى بالاستخلاصات الموازية لممارسة المهنة بهدف الاستفادة منها وتطوير الأداء. بل إن أدبيات المهنة الطبية تأسست عند قدماء المصريين في بدايات رحلة تطورها، ويَعرض مُتحف حي بروكلين في نيويورك بُردية مصرية تعود إلى سنة 1600 قبل الميلاد سميت باسم التاجر التي اشتراها في القرن التاسع عشر، وباتت تُعرف باسم “بُردية إدوين سميث” المكتوبة بالهيروغليفية وفيها ملاحظات تشريحية وأخرى عن الفحص والتشخيص والعلاج!
غير أن المهنة أو الوظيفة الأمنية ظلت على امتداد الزمان بلا أدبيات. فطوال القرون بقيت مغلقة على أسرارها، لا يقترب أحد من التعرض لمنهجياتها أو يلامس وقائع عملها وغلاظته غير المبررة، على الرغم من ملامستها المباشرة لسمعة النظام ومصيره، وسمعة الوطن ومكانته. لكن الوضع اختلف في العصور الحديثة، وفي البلدان المتقدمة، بفضل الدساتير الديمقراطية، فأصبحت التقارير الدورية عن الأمن متاحة لمن يريد الاطلاع عليها. فكل نظام حكم في الدنيا يحتاج النصيحة وإلى مرآة يرى فيها نفسه، وإلى عقلاء متخصصين يرسمون له صورة الواقع لكي يصحح منهجيته الأمنية ويتحاشى يوماً عسيراً.
مناسبة هذا الحديث هو ما لمسته بنفسي في سوريا، وكان أمراً بعيد الدلالة. فذات يوم في مثل هذا الشهر الكريم دعاني أحد الإخوة، وهو من درعا، إلى تناول طعام الإفطار في بيته. كنت أعرف أنه فني كهربائي، ولا أعرف مكان بيته. ذهبت إلى درعا بسيارتي، والتقيته في الساحة العامة لكي يأخذني إلى المكان.
في تلك الأيام كان المسافر من درعا إلى دمشق، عبر الطريق القديم كما يسمونه الآن، يرى في جهة اليمين بعد أربعة أو خمسة كيلومترات الأطراف العليا لقذائف الدفاع الجوي “سام”. فوجئت بالشاب يطلب مني الانعطاف يميناً إلى الطريق الترابي في اتجاه المواقع، فإذا بالرادارات تتحرك، والصواريخ تُرفع، وأخرى تُطرح أرضها للتجهيز. فالحركة ناشطة والرادارات تدور. وفي الحقيقة توقف شعر رأسي انفعالاً وحماسة. ظل الشاب يوجه حركتي بالسيارة، وفهمت أن مسكنه يقع في قلب القاعدة، لأنه المسؤول على محرك توليد الكهرباء التي تغذيها. وعند الوصول إلى المسكن وجدت ضابطاً برتبة عالية في انتظارنا، وسرعان ما علمت أنه مدعو إلى الإفطار معي. وما هي إلا دقائق حتى علمت أن الداعي أفهمه أن بمقدوره الحديث براحته آمناً على نفسه، لأن الضيف غير معجب بالنظام في سوريا. كنت في تلك اللحظة لا زلت متحمساً وكان شعر رأسي لا يزال واقفاً. بادرته بالقول كمن يُهلل “ما شاء الله.. ما شاء الله.. جاهزية عالية تشرح الصدر.. الله يحميكم يا إخوتنا..” وكلام آخر لا أذكره. فإذا بالضابط يرد علي باستهزاء مع ابتسامة ساخرة، ويقول بلهجة سورية تجعل آخر كلمة الجاهزية ياءً ممدودة “جاهزية عاليي، الله يبعتلنا اليهود اللي عندكم ييجوا ويظلوا ماشيين القامشلي”. شعرت لحظتها وكأن الضابط قد ضربني على رأسي، وجعلني بجملة واحدة معنياً بالشرح المضاد، ومفعماً بالخوف على سوريا وحتى على نظامها. أجبته “لا يا رجل، هل تتمنى الاحتلال؟ ومن قال لك إن الاحتلال إن وقع سينتهي؟”، فرد علي من فوره، ما يعني أنه لا يخاف على وطن يُنتهك فيه عِرضه وكرامته، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً. جادلته بقوة، فالتزم الصمت، لكنني يومها أحسست بأن الأمور تنذر بالشر المستطير!