ثورة فولكسفاغن الثقافية

يميز الغربيون مجتمعهم الحضري الصناعي بمسميين: ياقات بيضاء وياقات زرقاء. أصحاب الياقات البيضاء، أي مرتدو القمصان التي تميز موظفي المكاتب، هم العاملون غير المباشرين في الصناعة ممن لا يلوثون أيديهم بشحم المكائن. أصحاب الياقات الزرقاء هم العمال ممن يرتدون البدلة الكاملة (الأوفرأول أو العفريتة كما سمعت المصريين يسمونها). اختيار الأزرق الداكن ذكي لأنه لون يتحمل البقع والأوساخ المرتبطة بالعمل الصناعي.
الموظف على مكتبه بعيد عن ضوضاء المصانع، والعامل أمام ماكنته بكل مخاطرها وضجيجها. هذه الطبقية تأسست منذ أن انتقل الغربي من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة مع أول تباشير الثورة الصناعية في بريطانيا قبل ثلاثة قرون. طبقية صاحب الأرض والفلاح (أو القن، أي المزارع المرتبط بالأرض بما يشبه العبودية) تلاشت أمام الحركة الاقتصادية التي أنتجتها الثورة الصناعية.
صمدت هذه الطبقية نسبيا. ضع جانبا كل الأطر الأيدولوجية التي تولدت كنتيجة لهذه الطبقية، مثل الماركسية والشيوعية، وانظر إلى واقع الحال. كيف ما تتقلب الأمور السياسية، تعود لتستقر إلى واقع موظف المكتب والعامل في المصنع. قد يذهب الموظف إلى المصنع، بل ويمكن أن يوسخ يديه بشحم المكائن. ولكن هذه الممارسة تأتي من باب المعايشة لمعرفة ما يواجهه العامل يوميا. الموظف هو الشخص المتعلم والمؤهل جامعيا، والعامل هو الشخص المدرب مهنيا. هذه طبقية تستبق طبقية الجلوس على المكتب والوقوف أمام الآلة.
لكن شركة فولكسفاغن الألمانية لديها رأي آخر. لم يعد المؤهل الجامعي سببا لعدم إرسال الخريج إلى المصنع ليرتدي البدلة الزرقاء ويمارس العمل اليدوي ويتحمل ضجيج المكائن. لا شك أن مصنع اليوم لا علاقة له ببدائية مصانع مطلع القرن الماضي وأن هناك الكثير من الروبوتات وأجهزة التحكم الإلكترونية ومنظومات الأمن والسلامة. عامل اليوم مدرب بشكل عال، لكنه يبقى مؤهلا مهنيا وليس أكاديميا. ما تريده هذه الشركة الألمانية هو تغيير واقع العلاقة بين الخريج والآلة. قد يستمر بالعمل لسنة أو سنتين أمام الماكنة، ويعود إلى العمل المكتبي أمام شاشة كمبيوتر، لكن لا غنى عن الانطلاق من أصل الحكاية، أي أمام أداة الإنتاج الأساسية.
هذا تغير كبير في النظرة لمن هو عامل ومن هو موظف. من المبكر القول إن هذه أول خطوة لإزالة الطبقية المترسخة في العالم الصناعي. لكن عندما يتعلق الأمر بعملاق مثل فولكسفاغن، بحجم أعمال يبلغ 280 مليار يورو سنويا وأرباح تزيد عن 20 مليار يورو، فإن مثل هذا التغيير لن يكون محصورا في هذه الشركة، بل قد يتحول إلى “ثورة ثقافية” – إذا استعرنا مفردة الزعيم الصيني الراحل ماو زيدونغ عندما قرر إرسال الموظفين والطلبة إلى المزارع لسنوات طويلة كي يحسوا بما يحسه الفلاح في الحقل.
قد تحتاج الأمم إلى نقلات من هذا النوع بين مرحلة تاريخية وأخرى. اليوم تفرغ المكاتب، وبوسع الموظفين أن يعملوا من بيوتهم أو للأسوأ حظا، ثمة ذكاء اصطناعي يستبدلهم ويحل مكانهم. لكن العامل في المصنع لا يستطيع العمل عن بعد. وسواء أحصل على شهادة جامعية أم لا، فإن الدورة الاقتصادية الآن تحتاجه بياقته الزرقاء وليس البيضاء.
أقول هذا لأذكر بالحاجة إلى إعادة النظر في بلادنا العربية وأن يعود الناس المتكدسون في المدن ومن حملة الشهادات الجامعية المفيدة أو غير المفيدة إلى المعمل والحقل. عالمنا بحاجة إلى “ثورة ثقافية” تشبه ثورة فولكسفاغن.