ثلاث فنانات يقدمن تفسيرات أخرى للحدود الخاطئة بين المرأة والرجل

لطالما كان الخطاب النسوي مهما وفارقا في تحريك الفنون إلى نقاط بعيدة، سواء في تشكلها الجمالي أو الفكري والنفسي حتى، مانحة عالم النساء الساحر والمؤلم في آن أن يتجلى بشكل واضح ويصبح في المركز بدل الهامش الذي فرضته عليه الذكورة بقيودها وحدودها. لكن حتى الخطاب النسوي نفسه وضع حدودا جديدة أمام النساء مجبرا إياهن على نوع من الاصطفاف، وهو ما يجانب مهمة الفن الإنسانية الجامعة. وهذا ما تفطنت له الكثير من الفنانات المعاصرات اللواتي يستضيف أعمالهن بينالي الشارقة الدولي للفنون.
منذ مطلع القرن الماضي والفن النسوي يشق طريقه عبر العالم، مقدما خطابا جماليا وفنيا يواجه الهيمنة الذكورية على مستويين اثنين أساسيين، هما الفن والمجتمع، وما يتفرع عن كل منهما من مجالات تطالها لعبة الذكورة والتأنيث.
فنانات كثيرات قدمت كل منهن رسالتها من خلال اللوحات أو الأعمال التركيبية وغيرها، حتى ترسخ الفن النسوي مع تجارب مثل الفرنسية لويز بورجوا أو البريطانية جيني سافيل أو الألمانية ميريت أوبنهايم، وغيرهن الكثيرات، لكن ما يجمع الفنانات هو أن النساء كن أبطال أعمالهن، نساء متمردات وأخريت مقموعات بشكل مفضوح، فكان الرسم بالأساس بمثابة الصراخ والاحتجاج رغم الاختيارات اللونية المتناقضة بين البرود والنارية، بين الهدوء الأنثوي والانفعال الحاد. لكن يبدو أن الخطاب النسوي والنسائي تغيرا في الفن.
من خلال أعمال عدد من الفنانات التي يقدمها بينالي الشارقة في دورته الخامسة عشرة، وهو الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون حتى يونيو المقبل، يمكننا التأكيد على أن الخطاب النسوي في الفن يشهد تغيرات كثيرة، نحكي لاحقا عن تغير التوجه الفني واستعمالات المواد، وما يهم قبل كل شيء هو تحول صورة المرأة من المقموعة إلى الفاعلة وتحول الرجل من القامع والمتهم إلى ضحية هو الآخر، خطابات لا تتخذ لها ربوة أي فكرة مسبقة، بقدر ما تذهب إلى تقديم العالم بشيء من التوازن والتساؤل في آن.
نتطرق إلى ثلاث فنانات يقدم بينالي الشارقة أعمالهن وهن دالا ناصر وبشرى خليلي وأنجو دوديا حيث تطرح كل منها الفكرة بأسلوب مختلف عن الأخرى. لمسة النوثة حاضرة ولكن الخشونة أيضا لها مكانتها في طرح الفكرة كما في أحجار ناصر.
الخفة والتناقض
قدمت دالا ناصر عملها بعنوان “سن يقطر دما” الذي تؤكد أنها “تعاين فيه من خلال ممارستها الفنية الاشتباكات البشرية وغير البشرية في غمار بيئة تعاني من التدهور على نحو دائم”.
العمل التركيبي عبارة على قطع كبيرة من القماش منها الملون ومنها الملطّخ معلقة في الساحة على أربعة كابلات، مثل ستائر شفافة، يحركها ريح خفيف، لكن اللعبة التي أتقنت الفنانة في لعبها هي المزيج الغريب بين تلك الرهافة التي تنسج محاملها الفنية بنوع من الخشونة، إذ تثبت كل ستائرها بأكداس من الحجارة على الأرض.
والقطع النسيجية المتناثرة بجانب بعضها البعض تحيلنا إلى التشابك أو الحدو بين المادة والهواء، بين الارتفاع والشد إلى الأرض، بين البلى والتماسك، والحركة الخفيفة والثقل الذي يشد إلى الأرض.
وأتقنت الفنانة العرض واستنطاق فنها المعاصر دون تكلف أو مغالاة. تصنع الحدود دون حسم، وتترك بالفراغات أو الأقمشة النسيجية الشفاف بعضها للمتلقي أن يرى ما خلف العمل، إنها محاولة في النهاية لمساءلة الحدود التي نصنعها نحن، حدود كثيرة لا نتوقف عن خلقها داخلنا وخارجنا أفرادا وجماعات، وما هي إلا أقمشة نعلقها على كابلات العادات والحدود الدولية والسرية والمعلنة وغيرها. عالم من الحدود تتحداه ناصر بخفة وتناقض ظريف.
قطع من الأسرة
قدمت الفنانة أنجو دوديا معرضها بعنوان “جسر التردد” الذي تستقي مفرداتها البصرية فيه من مصادر متنوعة في تاريخ اللوحة سواء منها المتصل بالثقافة الشرقية أو الغربية، هذه الثنائية ظاهرة حتى في ثنائية الأعمال المعروضة التي منها ماهو مشتغل على أقمشة الأسرة وأخرى عبارة عن كولاجات تتخللها طبعات رقمية.
وتعود الفنانة إلى الكثير من الميثولوجيات الهندية وحتى الإغريقية، حيث المرأة تراوح بين صورة الآلهة والشهوة، ولكنها في كل اللوحات امرأة فاعلة لا مفعول بها، وحتى حضور الرجل كان متكافئا، حتى وهما على السرير. بينما الخلفيات أغلبها بألوان ترابية ونجد كذلك الأشجار التي تحتل خلفيات الكثير من اللوحات، عناصر تبدو بسيطة وقليلة ولكنها تعطي تركيزا خاصا على الشخصيات النسائية في اللوحات والحكايا المختزنة وكأننا أمام منمنمات من نوع آخر.
لوحات دوديا كأنها مقتطعة من أسطورة ما أو مأخوذة من أرض بعيدة حيث الحكايات الخفية التي تجمع النساء بالرجال، وكأننا ندخل غرفا سرية، وخاصة لوحاتها المشتغلة على أقمشة الأسرة وخلفياتها النافرة، تجعل من اللوحات رسائل خاصة في حميميتها، لكنها لا تخو أيضا من أفكار مستبطنة، نجد في إحدى لوحاتها الرجل نصفه جدار ممسكا غصنا أسود يقف قبالة امرأة لا يظهر منها سوى ظهرها، وكأنه يحاول صدها بنظرة واثقة.
بشرى خليلي تبتعد في تشكيلها الجمالي والفكري عن الخطاب النسوي المعتاد متجهة إلى أن تكون صوتا إنسانيا جامعا
تظهر في عمل آخر على نفس المحمل النافر من قماش الأسرة رؤوس آلهة من النساء معلقة بسلاسل إلى سلسلة، نكتشف من خلال شكل المحمل أنه جيد، وما رؤوس الآلهة إلا تمائم ونحن أمام عقد.
وفي عمل آخر يحمل الرجل المرأة صعودا على منحدر تعبث بملابسهما الريح، فيما تشير هي إلى الأسفل حيث تضع الفنانة في تقسيم جانبي للوحة عصفورا على غصن في الأعلى وجدارا في الأسفل.
وتتحكم دوديا ببراعة في مساحة لوحتها، ولعل اشتغالها على قطع من الأسرة وتحويل كل منها إلى شكل موح والعمل عليه، إضافة إلى التقسيمات الحديّة داخل اللوحة، ساهم في أن تكون أعمالها رسائل واعية، تحرر المرأة من صورتها المقموعة وتعيدها إلى وظيفة الآلهة وإلى مكانة التقابل مع الرجل والتكامل والتساوي رغم تلميحاتها الذكية بمحاولات الذكورة للتفوق، مثلما نجده في لوحة الرجل الذي ينام فوق امرأة بينما هي مفتوحة العينين.
صوت جامع
ورد في تقديم معرض الفنانة المغربية بشرى خليلي أن الفنانة “تتأمل مفهوم المساواة الراديكالية أثناء معاينتها لنضال مجتمعات السكان الأصليين والمهاجرين في سبيل نيل حقوق متساوية”، مضيفا أن أعمال الفنانة التركيبية متعددة الوسائط بعنوان “الدرائرة” تستقصي تاريخ العمال العرب المهاجرين وتحديدا في فرنسا.
العمل التركيبي الاول في القاعة كان بمثابة قصاصات وصور حقيقية لأشخاص حقيقيين تعيد الفنانة إحياء حكاياتهم عبر تجميعهم في عمل واحد من جنس الكولاج، كولاج لا يهتم بالتشكل الجمالي بقدر اهتمامه بتقديم القصص كل على حدة تفصل بينها حدود لونية أو خطية عمودية، وكأننا أمام صحيفة.
العمل الثاني الذي يلفت الانتباه هو ما قدمته على شاشة عرض متقابلة بزاوية واسعة ما يمنح الصورة إيحاء بأنها في تفاعل ما بين شقيها، وفي الفيديو امرأة ورجل، الرجل ثابت في الخلفية بينما المرأة هي التي تتحرك وتتكلم. لا تعقد الفنانة رسالتها من خلال اللعب المكشوف على العناصر متنقلة من عنصر بث الخبر والتوثيق وكأننا أمام فيلم وثائقي في شكل لوحة، تأخذ شكل صابروة المحقق بما يتجمع عليها من أخبار وصور وحقائق. أما الفيديو المعروض على مسرح صغير لرواد الجناح، فهو رسالة امرأة إلى العالم، قد لا نفهم ما تقول بلغتها الخافتة، لكننا نفهم من حركاتها وهي واقفة شأنها شأن الرجل خلفها أنها هنا. ومن ناحية أخرى نفهم أنها من أبناء المهاجرين.
حكاية كمال جلالي التي تتابعها الفنانة عبر لوحتها تتابعها أيضا عبر الفيديو، وصولا إلى آخر المعرض حيث شاشات صغيرة تعرض شخصا يقرأ من ورقة في مسرح مفتوح.
ويبدو تأثير السينما التي درستها الفنانة في جامعة السوربون الجديدة جليا، إذ تمزج في عناصر معرضها الثلاثة والبسيطة تقنيات الإخراج بالتدرج من الدث الأساسي والوثيقة الواضحة إلى حكايات المرأة الشابة وصولا إلى آخر القاعة حيث ثلاث تلفزات صغيرة تقدم قراءات متزامنة.
ورغم تأكيد الفنانة على ملاحقة الحدث والشخصيات والتفاصيل الحقيقية واستنطاق عناصرها إلا أنها تطلب من جمهورها شيئا من بذل الجهد لفهم القصة التي تريد إيصالها، مبتعدة في تشكيلها الجمالي والبصري أو الفكري عن الخطاب النسوي المعتاد، ومتجهة أكثر إلى أن تكون صوتا إنسانيا جامعا لا تهمه إلا القضايا التي يدافع عنها.